الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
...... هناك موضوع آخر تشير له الولاية المطلقة للفقيه يتعلق بهذا السؤال: هل أن مجال تصرف وصلاحيّات الولي الفقيه منحصر بحدود القضايا الضرورية والاضطرارية، أو أنّه حتى لو لم تصل المسألة إلى هذا الحدّ، ولكن يوجد في البين رجحان عقلي أو عقلائي فإنّ الفقيه مجاز بالتصرف؟ يحسن توضيح الموضوع بمثال مناسب:
الفرض الأول:
لو أنّ وضعية المرور في المدينة تعاني من مشكلة جديّة، وبسبب قلة الشوارع أو ضيقها فإنّ أصحاب السيارات يضطرّون إلى التوقف ساعات متوالية بنحو يقرر معه المختصون من ذوي الأمانة والخبرة أن فتح بضعة شوارع عريضة لازم وضروري.
أو أنّ تلوّث هواء المدينة وصل إلى حدّ أخذ معه المختصون والأطباء يحذّرون الناس والحكومة بصورة متكررة، واقترحوا أنّ طريق الحلّ يتمثل بإحداث حدائق واسعة.
ففي مثل هذه الموارد لا شك أنّ الوليّ الفقيه يستطيع الاستفادة من صلاحيّاته الحكومية، ويأمر بفتح الشوارع وإحداث الحدائق العامة، حتى لو لم يرض أصحاب الأملاك والأراضي التي تتعرض للهدم بسبب ذلك، بعد إعطاء تعويضات عادلة لهم تجبر خسائرهم.
الفرض الثاني :
أنّه لو أردنا أن نجمّل إحدى المدن بإنشاء ساحة أو حديقة عامة في إحدى مناطقها، ولكن لم يكن الوضع بحيث يترتب على عدم إنشاء الحديقة أو الساحة مشكلة في نظام المرور أو تلوّث الهواء، وكان إنشاء الحديقة أو الساحة مستلزماً لتخريب البيوت والحوانيت والتصرف في الأملاك، التي لا يرضى بعض أصحابها أحياناً بهدمها حتى لو عوّضتهم الدولة بما يساوي قيمتها الفعلية، فهل أن نطاق ولاية الفقيه شامل أيضاٍ لمثل هذه الموارد، فيستطيع رغم عدم موافقتهم أن يصدر أمراً بالهدم وإقامة الحدائق وفتح الشوارع؟
إنّ ولاية الفقيه المطلقة معناها: أنّ صلاحيات الولي الفقيه ليست محدودة بحدّ الضرورة والاضطرار، ولكنّها مطلقة وشاملة حتى للأمور التي لا تصل إلى ذلك الحدّ، إلّا أنها سائغة في نظر العقل والعقلاء، فليس من اللازم أن يكون الغرض من النحو الأول لكي يجوز للفقيه أن يأمر بفتح الشوارع والحدائق ويتدخل في الأمور الاجتماعية، وإنّما صلاحياته شاملة للفرض الثاني أيضاً، ومن الواضح أنّ مثل هذه الصلاحيات ليس لها أية علاقة بالاستبداد والدكتاتورية والفاشيّة.
وبهذا يتّضح أنّ ولاية الفقيه المطلقة لا تعني بحال أنّ الفقيه يتصرف كما يشاء، دون أن يكون هناك مبنى وملاك لتصرفاته، وأنه لا يستند في حكمه إلّا لنظره الشخصي ومزاجه وميوله النفسيّة، وإنّما الولي الفقيه هو المنفّذ والمطبق لأحكام الإسلام، وأنّ دليل ولايته يرتبط بتطبيقه لأحكام الشرع الإسلامي المقدّس، وتأمين مصالح المجتمع الإسلامي عن طريق تطبيق هذه الأحكام، وبديهي أنّ أسس اتخاذ القرارات والانتخابات والعزل والتعيين وجميع نشاطات الفقيه قائمة على أحكام الإسلام، وتحقيق مصالح المجتمع، ورضى الله تعالى ، ولو أنّ الفقيه عدل عن هذه الأسس، فإنه سوف يفقد صلاحياته، وتزول ولايته تلقائياً، ولا يطاع في أيّ أمر من أوامره.
وعليه فإنّ بإمكاننا القول: إنّ ولاية الفقيه هي في الواقع ولاية القانون؛ لإنّ الفقيه ملزم ومكلف بأن يعمل في حدود قوانين الإسلام، وليس من حقّه أن يتعدّى هذه الحدود، وكذلك شخص النبي (ص) والأئمة المعصومون (ع)، ولأجله نستطيع التعبير بدلاً عن «ولاية الفقيه» بعبارة «حكومة القانون»، مع الالتفات طبعاً إلى أنّ المراد بالقانون هنا: قانون الإسلام، ولا ننسى أيضاً ما ذكرناه: أنّ من شرائط الولي الفقيه «العدالة» ، والمراد بالعادل هو مَن يدور عمله على محور أوامر الله ونواهيه، لا على محور أهواء النفس، وبهذا يتضح بطلان الادّعاء بأنّ الولي الفقيه بوسعه أن يعمل ما يشاء وفقاً لرغباته وأهوائه، وأن يفرض ما يريد على الآخرين، وإنّما يجب القول: إنّ الفقيه العادل هو ذلك الشخص الذي يحكم على أساس أحكام «الدين» وإرادة «الله».
إنّ أعداء الإسلام وعلماء الدين في بعض أحاديثهم ومؤلفاتهم يعمدون إلى الكذب بشأن ولاية الفقيه، ويزعمون أنّ الولاية المطلقة للفقيه تعني: أنّ صلاحيات الفقيه تمتدّ إلى كل شيء، حتّى أنّ بإمكانه أن يغيّر التوحيد وينكره، أو يلغي وجوب الصلاة، وهذا بمثابة الرقعة المغايرة للون الثوب، التي كان الأعداء والمغرضون ولا يزالون يهدفون إلى إلصاقها بهذه النظرية، وإلّا فإنّه لم يقل أحد إلى الآن مثل هذا، ولا يستطيع أن يقوله، فإنّ أوّل عمل للفقيه هو حفظ الإسلام، وهل يكون إسلام بلا توحيد؟ وهل يكون إسلام بلا نبوّة؟ وهل يكون إسلام بلا ضروريات الدين من قبيل الصلاة والصيام؟ وإذا أزلنا من الإسلام كل هذه الأمور فما هو الإسلام إذن الذى يريد الفقيه أن يحافظ عليه؟
إنّ ما يوجب أحياناً إلقاء مثل هذه الشبهات والمغالطات، هو أن الفقيه من أجل حفظ مصالح الإسلام، إذ دار الأمر بين المهمّ والأهمّ، يستطيع أن يضحّي بالمهمّ حفاظاً على الأهمّ، فمثلاً إذا تسبّب أداء فريضة الحج بإلحاق أضرار بالمجتمع الاسلامي فإنّه يكون للفقيه الحقّ في أن يقول: لا تذهبوا إلى الحج هذا العام، أومثلاً قد يكون الآن أول وقت الصلاة، ولكن الشواهد تدل على أنّ هجوم العدو قريب الوقوع، ولذا يجب أن يكون جميع المقاتلين على استعداد كامل لمواجهته، ففي هذه الحال يحق للفقيه أن يقول : أخّروا الصلاة عن أول وقتها، وصلّوا في آخر الوقت، وإنّ أداء الصلاة في أوّل الوقت والحال هذه محرّم عليكم، ففي هذا المثال ليس الفقيه وحده بل حتى الآمر المنصوب من قبله يستطيع أن يصدر هذا الأمر، ولكن هذا كلّه ليس معناه أنه يحق للفقيه أن يقول: لا حجّ ولا صلاة، وفي الإسلام، بل إنّ ما يقع في الأمثلة المتقدمة أن الفقيه بعد تشخيص المهم والأهمّ يضحي بالمهمّ من أجل الأهم، وهذا ليس شيئا جديداً، بل هو ما يقوله جميع فقهاء الشيعة وما نعلمه نحن جميعاً، والمثال المعروف لذلك هو ما تذكره أغلب الكتب الفقهية: أنه إذا صادف أن رأيت طفلاً يغرق في حوض منزل الجار، ولم يكن صاحب البيت في منزله، وتطلّب إنقاذ الطفل أن تدخل المنزل بلا ترخيض ـ ممّا يعدّ في النظر الفقهي تصرفاً غصبيّاً ومحرماً ـ فهل تستطيع أن تقول هنا: إنّني لست مجازاً بدخول المنزل، ولذا فإنّني لن أفعل شيئاً حتى لو مات الطفل غرقاً؟ ليس هناك عاقل يشك في مثل هذه الحالة بوجوب إنقاذ الطفل، حتي لو كان صاحب المنزل حاضراً ويقول بصراحة: لستُ راضياً بدخولك منزلي، ما لم يكن هو مشغولاً بإنقاذ الطفل، وإلّا فلن نعير التفاتاً لاعتراضه.
وفي هذه القضية تواجهنا مسألتان:
إحداهما: أنّ التصرف في ملك الغير دون رضاه هو غضب وحرام.
والأخرى: أنّ إنقاذ حياة المسلم واجب.
ولو كانت الظروف بنحو لا نتمكن فيها من العمل بالمسألتين معاً فهنا يجب أن نوازن بين المسألتين، ونرى أيّهما أهم من الأخرى فنعمل بالأهم، ونضطر لترك الأخرى.
وهذا العمل الذي يصطلح عليه فقيهاً بتقديم الأهم على المهم له في الواقع جذر عقلائي، وليس مرتبطاً بالشارع فقط، وما ذكرناه من مثال الحج والصلاة فإنّ حكم الفقيه بتعطيل الحج موقتاً، أو تأخير الصلاة عن أوّل الوقت قائم على هذا الأساس ، وليس صادراً عن هوى الفقيه، وحكمه بما يشاء.
وبما قدمناه من توضيحات يتبيّن معنى الولاية المطلقة للفقيه، وأنّه لا يستلزم الاستبداد والدكتاتورية بأي وجه، وأن ما يشاع في هذا المجال هو غالباً اتهامات وأكاذيب تلصق بهذه النظرية.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع