الشيخ محمد مهدي شمس الدين ..
الجاهلية الحديثة هي الحضارة التي أبدعها الإنسان الأوروبي منذ عهد النهضة إلى يومنا هذا، مستفيداً في هذا الإنجاز الضخم من كل إبداعات العقل البشري على مدى التاريخ (وفي طليعة ذلك الأعمال والأفكار العظيمة التي أبدعها المسلمون)، نقول الحضارة التي أبدعها الإنسان الأوروبي ووسمها بميسمه الخاص: ميسم شخصيته، وعقليته، وتطلعاته، ونظرته إلى الحياة.
ومن هنا- من أنها موسومة بميسم الإنسان الأوروبي- فهي ليست عالمية من حيث النبع والمحتوى، وإن كانت عالمية من حيث الإنتشار.
كانت-حين ولدت- حضارة إنسان أوروبا، ولا تزال حضارة إنسان أوروبا، وستبقى كذلك ما لم يتغير محتواها الداخلي، ما لم يتغير معناها.إنها بوضعها الحاضر لم تمثل الإنسان، ولذا فهي ليست عالمية، إنها تمثل إنسانها الذي أبدعها، وسيطر بها على الآخرين، واستخدمهم بها لمصلحته، فهي، إذن، حضارته هو وليست حضارة الآخرين: حضارته هو، لأنه هو أعطاها وأبدعها وازدهر بها ونما من خلالها، وليست حضارة الآخرين، لأنها فرضت عليهم، وسحقتهم أنيابها الفولاذية، وذوب شخصياتهم وهجها الشهواني.
حضارة الإنسان الأوروبي = الحضارة الأوروبية = الحضارة الغربية = الحضارة الحديثة اكتسبت صفة العالمية، لا بسبب إنها عالمية حقيقة،وإنما بسبب التفوق المادي الذي يتمتع به مبدعوها من جهة، والضعف الفكري والعقيدي اللذين يعاني منها أولئك الذين استطاعت هذه الحضارة أن تضعهم في مركز جاذبيتها، فاجتذبهم بريقها الساطع، وسرابها الخادع .
وحين نسمي هذه الحضارة (( الجاهلية الحديثة)) فلا نريد أن نقلل من أهمية ما أنجزته من تقدم مادي يسرت به الحياة تيسيراً لم يكن ليتصوره قبل هذا العصر إنسان. فهذه الإنجازات المادية العظيمة هي فضيلة هذه الحضارة، ولذا فإن إدانتنا لها لا تعني أننا نريد أن نبرأ من كل تقدم مادي، وإنما نطمح إلى أن يكون هذا التقدم متمماً لسعادة الإنسان، ولا يبقى عاملاً يستلب إنسانيته في مقابل أن يعطيه وهم السعادة، فإن التقدم المادي العظيم الذي أنجزته هذه الحضارة وهو فضيلتها الكبرى قد تحوّل إلى عامل مدمر في الإنسان حين كيّف الإنسان ظاهر حياته وفقًا له دون أن يرافق ذلك نمو في المعنى الإنساني عنده، بل حتى دون أن يحافظ على فضائله النفسية التي كان يتمتع بها في الماضي. إن الحضارة الحديثة قد أعطت الإنسان القوة وسلبته الفضيلة، وأعطته الراحة، وسلبته السعادة.
إن الحضارة الأوروبية التي أحرزت أعظم ما يمكن أن يتاح من نجاح على صعيد الإنجاز المادي والسيطرة على الطبيعة قد منيت بأخطر ما يمكن أن يحصل من إخفاق على صعيد بناء الإنسان، ففي حقل الإنجاز المادي نجاح خارق وفي حقل بناء الإنسان إخفاق مأساوي.
إن مبدعي الحضارة الحديثة قد تعاملوا مع الإنسان كما يتعاملون مع (( الأشياء))، والأشياء دائماً تخضع-في التعامل معها- لعامل ((الكم)) و (( الفائدة)) و((سد الحاجة)) إن التعامل مع الأشياء يخضع دائماً لنظرة غائية مصلحية، فإذا خضع التعامل مع الإنسان أيضاً لهذه النظرة تحدث الكارثة، وقد حدث ذلك في نطاق الحضارة الأوروبية، فأخضعت التعامل مع الإنسان لقانون التعامل مع الأشياء، فحدثت الكارثة إذ لم يعد الإنسان يمثل قيمة مقدسة في حد نفسه، وإنما غدا يمثل قيمة ((كمية)) و((نفعية)) لقد خضع العنصر الإنساني-كما هو الحال في خامات الحديد والقطن وما إلى ذلك- لحاجات الاقتصاد، والحركة الصناعية . وهكذا تحطم الإنسان المتكامل في داخل الأوروبي فوجد الإنسان(( المادي)) الذي بسط نظرته هذه إلى الإنسان إلى خارج أوروبا فعامل الإنسان غير الأوروبي كأنه ((شيئ)) يقدم إمكانية كبرى للاستثمار والاستمتاع، ولم يعامله (( كإنسان مماثل له في الإنسانية)) يدخل معه في شراكة حضارية.
لقد حدث هذا الشذوذ الخطير في الحضارة الأوروبية لأنها منذ بدايات تكوينها قامت على فكرة إحراز التقدم المادي و((تسخير الطبيعة= السيطرة على الطبيعة)) فكانت النتيجة أنها سخرت الإنسان أيضاً لإنجازاتها في حقل الطبيعة، سخرته للآلة .
وما نريده هو أن تقوم حضارة تستمد عظمتها من المعنى الإنساني لا من التقدم المادي وحده. إن كل نظام حضاري يمكن أن يقدم للناس كل ما يتيح عصره من رخاء، ولكن قيمته كحضارة تبقى رهينة نظرته إلى الإنسان وتعامله مع الإنسان.
وضمانة تقدم الإنسان وازدهاره لا توجد في ما يتمتع به من رخاء، وإنما في ما يتمتع به من معنى، إن الكوارث العظمى يمكن أن تسحق مجتمعاً برمته لا يتمتع بالمعنى الإنساني المتكامل، وإن كان يتمتع بأعلى درجات الرخاء،ولكن المجتمع الذي يتمتع بالمعنى الإنساني يمكن أن ينهض من ركام الكارثة فيعيد بناء نفسه ومستقبله من جديد، وذلك لأنه يملك القوة الداخلية التي تمكنه من البناء.
من زاوية موقفها من الإنسان وتعاملها مع الإنسان، إذن، ننظر إلى الحضارة الغربية، ونقومها على هذا الأساس لنرى فيها سمة الجاهلية الكبرى وهي المادية، وما تستتبع من سمات تنتج عنها، وتنبع منها .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان