مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ رضا الصغير
عن الكاتب :
طالب علوم دينية في حوزة قم المقدسة

الرضا عن الذات


الشيخ رضا الصغير ..

عندما يقدم تلميذ المدرسة امتحانه، ويخرج من قاعة الإمتحان ، وتبادره بالسؤال (كيف كان أداؤك ؟!) فيجيب بحسب ما قدمه، إما بالتفاؤل أو بخيبة الأمل، لكن كثيراً ما يكون هذا الحدس غير دقيق، فلعله كان يتوقع نفسه مخطئاً في إجابةٍ أو إجابتين، والواقع أنه أخطأ في أكثر من ذلك، أو لم يخطئ، وربما توقع درجات معينة، ومع استلام (الشهادة) يتضح مستواه الحقيقي.
في الأمور التي لها كواشف معينة، يمكن تحديد بعض المستويات من عدة طرق، كتقييم الأستاذ، أو الأقران (الزملاء)، أو (اللجنة)، أو أي جهة يمكنها التقييم، في كل الأمثلة المتقدمة، إن كان مستوى (المُقيِّم) أعلى من الشخص، فإن التقييم مصداقيته لذات الشخص، يقارب الحقيقة وأكثر دقة، وأما لو كان مستواهم أدنى من مستوى الشخص (المُقيَّم) فإن المصداقية والتقييم غير متضحة المعالم لذات الشخص، وغاية ما يفيدونه، أنه أعلى مستوىً منهم، وأنه على درجة من الكمال، لكن لأي حد؟! لا يمكن معرفته على نحو الدقة.
هذا في الأمور التي لها مقاييس وضوابط، وهناك أمورٌ ليس لها ضوابط ومعايير واضحة وجلية، وهي الأمور المعنوية، والأعمال الأخروية المرتبطة بالله (سبحانه) التي لا يمكن تقييمها من قبلنا، ومقاييسها بيده (جل وعلا)، نعم ربما هناك إرشاد للوصول إليها، وبلوغ أعلى مراتبها، كإخلاص النية وصفائها، فهل يمكننا تقييم أنفسنا؟! أو نرضى عن ذواتنا لتقييم الآخرين لنا؟!
هل يكفي أن يقول لنا الناس: أنتم من أهل الصلاح، والمقيمين الصلاة؟! أم هل يفيدنا لو قيل لنا هنيئاً لكم الجنة؟!  (فالدرة) لو قال الناس كلهم عنها (حجرة) لن تصبح كذلك، و(والحجرة) لو قال الناس عنها درة لن تصير كذلك، فالإنسان ليس بما يقيمه الآخرون، بل بقيمته الواقعية.
لعلّ من الواضح أن هذا لا يفيد، لكن الشيطان الخبيث لا يتركنا، ولا يغفل عن التسويل لنا، حتى يوهمنا بالرضا،  وحينها إما نمحق ما قدمنا من عمل، أو يكون ما نأتي به من الأعمال مشوباً بالعجب والرياء، فهو كالثمرة ذات الرونق الرائع، الفاسدة من الداخل.
إن الشيطان الرجيم قد يلقي حبائله ومكائده على المؤمنين، فقد يعمل الإنسان المؤمن بصفاء نية، وطيب أخلاق، ويخلص ويتفانى، وقد يصل هذا المؤمن إلى بعض المراتب الروحية، فقد يرى في المنام أموراً قد تقع في الخارج، وقد تحصل له بعض الحالات، وربما كانت هذه في حد ذاتها صادقة، وهنا يتدخل الشيطان ويوهم هذا الإنسان المؤمن بأنه وليٌ من الأولياء، وأنه صاحب مقامٍ من المقامات، فيرى لنفسه أحقيةً وأنه مؤهل، وربما ادعى بعد ذلك شيئاً لنفسه فضلاً عن الاعتقاد، ولذا البعض أعلن بأنه سفير الإمام صاحب الزمان - عجل الله فرجه - أو ابنه أو نائبه الخاص افتراءً على الله وعدواناً بتسويلٍ من الشيطان، هذا الأمر صعبٌ وخطيرٌ جداً، وهو من الفتن العظام، ويحتاج فيه الإنسان إلى مرشد يدله على الطريق، ومع فقدان المرشد والدليل، تبقى عندنا أمورٌ أشبه ما تكون بالأعمدة والأركان الثابتة والتي دلل عليها الشرع، ولا شك أن هناك أموراً ممتنعة يجب أن تؤخذ بالحسبان، كمقام السفارة والنيابة حيث ورد "وسيأتي إلى شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم" (1)
ومن هذه الأمور المعلومة حتماً، أن النبوة قد ختمت بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وكل مقام إلهي يحتاج إلى تنصيص وتخصيص، وحيث أن الكاشف عن أمر الله غائب، وهو (المعصوم) ولا يدعيّن أحد المشاهدة الخاصة لما تقدم، أما الحالات الغريبة فهي ليست مخصوصة بالمؤمن، بل يمكن أن تحصل لمن يقوم ببعض الرياضات الروحية، من قبيل الامتناع عن أكل اللحوم، أو التركيز، أو الاسترخاء، بحيث تتقوى بعض الحواس عندهم، فتستطيع (مثلاً) العين رؤية أطوال موجية، لا تلتفت لها العين بدون هذه الرياضات، وهكذا.
ولنساعد أنفسنا ونتلافى أفخاخ الشيطان، فلننتبه أن هذا الذي قد نراه ليس مقامات، ولا نعني أن الإنسان المؤمن لا يكون كريماً عند الله، بل هو كذلك لكن بدون ادعاءات، وأن الله لا يعطي أحداً صفةً من الصفات ولا يكسوها إياه إلا إذا اشترط عليه - الشرط ليس لفظياً - أداء حقها وعدم استخدامها في المآرب الشخصية وإلا فيسلبها الله (سبحانه)، قال تعالى: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ))(2)  فهذه المقامات الروحية إن حصلت، لها معايير عامة وإن لم نكتشف حقيقتها بدقة، فلا تجد إنساناً يدعي (العرفان) يكشف ما يحاول العبد إخفاءه، من ذنب وشبهه ويستره عن الناس ، لأن الله (سبحانه) هو الساتر على عباده، فكيف من يعطيه الله مقاماً، فيخالف سنة ربه؟!

ومن هذا يعرف الشخص نفسه فحتى لو امتدح يعرف حقيقة ذاته، ويمكن أيضاً أن يعرف غيره، وقد يأتي أناس يستثنون أنفسهم، فيقولون:نعم، لا يمكن لأحد أن يكون سفيراً لصاحب الزمان، أما (فلان) لا يشمله هذا، أو نحن لا يشملنا هذا، والجواب: لا أحد مستثنى! الناس كلهم سواسية، ومن يرد الله رفعته فلا يحتاج إلى إدعاء مقام، وأنا وأنت كلنا مشمولون بهذا الخطاب.
لكن هنا يتوجه السؤال؛ هناك مقامات وأعمال لها ثواب ذكرها الله (سبحانه) وبيّنها رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأمرنا بحسن الظن بالله، وأن كرمه أوسع من رجائنا، وما تقدم يبين أن هذا نسج من شبائك الشيطان، فكيف يتم التوفيق؟!
لاشك ولا ريب أن عطاء الله عظيم، وأنه لا يضيع عمل عامل، فمن جهة الله (سبحانه) نعتقد جزماً بكرمه وتفضله، وقد يعطي بعض الأولياء ما هو صفات إلهية، لكن بشرط أن تكون كلها لله، وليس له فيها شيء، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))(3)
ومن جهتنا نظن بأن عملنا قبال ساحته محل القصور والتقصير، ولا نستحق مقابل عملنا أي شيء يذكر، وما يعطينا الله إياه هو محض التفضل والتكرم، وهنا يدور الأمر بين الخوف والرجاء، فلا وثوق، ولا قنوط، بل أمرٌ بين الأمرين.
______________________
(1) الاحتجاج ٢: ٢٩٦ - ٢٩٧ ط النجف الأشرف.
(2)  الأعراف 175- 176
(3) المائدة 116-117
https://t.me/Reda7Qom

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد