مقالات

في يوم اللغة العربية: المأزق حقيقي


منذ أن أعلنت منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثّقافة "اليونسكو" يوم 18 من شهر ديسمبر كانون الأول يوماً عالمياً للاحتفاء باللغة العربيّة، تسابقت بعض الدول والمنظمّات والملتقيات المهتّمة إلى عقد المؤتمرات المختلفة، وتنظيم فعاليّات تحاكي واقع اللّغة وتتطرّق إلى همومها وقضاياها، مع محاولات شبه يائسة إلى تقديم علاجات -ولو آنيّة- لأزمة اللّغة نفسها التي ترزح تحت وطأتها منذ عقود طويلة من الزمن، بفعل عامل السياسة وغياب الاهتمام الفردي والجمعي.
فكل ما أقيم وسيقام، لن يمكنه الخلوص إلى نتيجة موحّدة تسهم في النّهوض باللغة التي يتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة والابتعاد بها إلى الأعلى، ولعلّ ذلك يعود إلى جملة من التحديّات التي تقف أمام اللّغة عائقاً صلباً يصعب إزاحته من طريقها إن لم نقل إزالته كليًّا.
ومردّ ذلك إلى أن واقع التخلّف القابع على صدر المجتمع العربي منذ أمد -والذي يحاول البعض النّهوض منه- يحولُ دون ذلك، فالمشكلة ليست في اللغة العربية نفسها لقدرتها على تحمّل واستيعاب التطوّر والتقدّم، بقدر ما هي في واقع مَن يتكلّم بها، فضلاً عن تأخرّها في الوصول إلى نتاج العصر الذي أصبح مرتعاً للّطفرة التقنية والعلمية الهائلة وبلغته الخاصة.
وقريباً من لغتنا العربيّة التي أُهملت منذ أمدٍ طويل وتُركت لشأنها، تلجأ الأمم المتعاقبة إلى مجرّد الذكرى للحفاظ عليها، دون محاولة جدّية تأخذ بمجامعها وتقدّمها إلى العالم أجمع بصورة حديثة تحاكي كلّ عصر وزمان، وبمنأى عن هذا كلّه لعبت وتلعب السياسات العربيّة السابقة والحاليّة على ترك اللغة مأطّرة بأُطرها التي أطلَّت على العالم من خلالها، فلم تعمل على تزيين تلك الأطر وتوسعتها، بل ألقت عليها قيوداً ملوّنة تضجّ بها ثقافات غربيّة مختلفة، وعملت على الترويج للغاتها بين النّاطقين بلغة الضّاد الذين تلقّفوها بسرعة، وصاروا يتباهون بها -وهذا ليس عيباً أن يتكلّم المرء بأكثر من لسان- ولكن ليس على حساب لغته الأمّ التي تحتاج جهدَه لإيصالها إلى أبعد مدى.
كلّ السياسات والحكومات لم تخرج يوماً مبادراتها عن حدود مجموعة مؤتمرات تحشد لها من كلّ مكان، وتُخرِجُ نتائجَها على الورق ممهورة بتواقيع مختصّين لم تتح لهم الفرصة -رغم المشاركة فيها- لكي يبصروا أفكارهم وتطلّعاتهم خارجة من مساحات الورق واقعاً يجري تطبيقه على الأرض.
وفي ظلّ ذلك، تتعامل الإدارات الرسمية وغير الرسميّة بغير لغة، فضلاً عن غير لغةٍ في الاقتصاد والإعلام -وإن تكلّم بالعربية- كلّ ذلك ينذر بوجود خللٍ في الأمن اللّغوي، يتطلب قرعَ ناقوس الخطر ومواجهة تداعياته بشتّى السبل، والتي تعود بكُلِّها إلى القرار السياسي الذي يمكن أن يفصل فيها بعيداً العلاقات العامة والسياسات الخارجية.
 وليست المسارعة إلى اعتماد المناهج الغربيّة في التعليم إلا واحدة من تلك التداعيات، في ظلّ ترك مناهج العربية على حالها وكأنها ستنمو لوحدها وتتطوّر في تربة غير خصبة، وبعيداً عن السياسات التي بلا شك أثّرت وتؤثّر وستؤثّر -في ضوء ما يشغل بالها من أحداث- على اللغة العربية ومستقبلها، تلعب مجامع اللغة العربية المتوزّعة في أكثر من بلد عربي على تشتيت اللّغة أكثر وأكثر وعدم ضمان وحدة مفرداتها ومصطلحاتها فيما تتداعى الدول التي تحتضن تلك المجامع إلى الدفاع وتبنّي رأي كلّ مجمع فيها وقد يصل الدفاع حدّ الاستماتة في بعض الأحيان.
يبقى القول إن التداعيات كثيرة وكثيرة جداً، وليس مبالغاً فيه الادّعاء بأن اللغة العربية في مأزق حقيقيّ، مع وجود من يريد لها أن تظلّ متروكة تحت ظلال قدسيّتها التي تحفل بها منذ القدم، متناسين أنه في المدى البعيد "لا قدّر الله" لربما تتشظّى وتتكسّر- كما حصل مع لغات أخرى- وبالتالي ينتج عنها بنات لغة أخريات تلعب اللهجة المحكيّة دورها في إرسائها، فضلاً عن عدم وجود الوعي الفرد والجمعيّ، وقلة اهتمام من أولي القرار على مستوى العالي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد