مقالات

الاستغفار .. استدعاء الرحمة


الإمام الخامنئي "دام ظله" ..

كل ما يحتاج إليه الفرد البشري والمجتمع الإنساني من ألطاف إلهية وتفضلات ورحمة ونورانية وهداية إلهية وتوفيق من اللَّه والعون على الأمور والنجاح في الساحات المختلفة؛ تنغلق أبوابها بسبب الذنوب التي نرتكبها. فالذنوب تصبح حجاباً بيننا وبين الرحمة والتفضل الإلهي. والاستغفار يزيل ذلك الحجاب، ويفتح أمامنا سبيل الرحمة والتفضّل الإلهي، تلك هي فائدة الاستغفار.

- آثار الاستغفار
الاستغفار ينجيكم من الحقارة، الاستغفار ينجينا من القيود والسلاسل والغلّ. الاستغفار يجلي صدأ قلوبكم النورانية التي وهبها اللَّه تعالى لكم ويطهّرها.
الاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهي عن الذنوب. إذا تمَّ الاستغفار بشكل صحيح فسينفتح باب البركات الإلهية في وجه الإنسان. لاحظوا آيات القرآن في عدة مواضع قد ذكرت للاستغفار فوائد دنيوية وفوائد أخروية. مثلًا: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (هود: 3)، (يرسل السماء عليكم مدراراً) (هود: 52) ومن هذا القبيل. كل تلك الآيات يفهم منها أن السبيل إلى نيل التفضل الإلهي هو الاستغفار، وببركته ينهمر الفضل الإلهي على قلب الإنسان وجسمه وعلى المجتمع الإنساني، لذلك فإن الاستغفار مهم.
الاستغفار بذاته هو جزء من التوبة، والتوبة تعني العودة إلى اللَّه. وعليه فإن الاستفغار هو ركن من أركان التوبة، وهو طلب العفو والمغفرة من اللَّه تعالى. وهو أحد النعم الإلهية الكبرى، أي أن يفتح اللَّه تعالى باب التوبة بوجه عباده ليتمكنوا من السير في طريق الكمال، وأن لا يقعدهم الذنب عن ذلك، لأن الذنب يسقط الإنسان من أوج علوّه الإنساني. فكل‏ ذنب يوجّه لروح الإنسان وصفائه ومعنوياته وعزته الروحية ضربة، ويذهب بشفافية روح الإنسان ويكدّرها. فالذنب يقضي على الجانب المعنوي للإنسان والذي يميّز الإنسان عن باقي موجودات عالم المادة، ويسقط شفافيته ويقربه من الحيوانات والجمادات.
وعلاوة على هذا الجانب المعنوي، فإنّ الذنوب تتسبب بسلب توفيق الإنسان في حياته. فالإنسان يفشل في كثير من ميادين التحرك البشري بسبب الذنوب التي تصدر عنه. ولذلك الأمر تبرير علمي وفلسفي ونفسي أيضاً وليس هو تعبداً وألفاظاً فقط.


* نموذج أُحُد:
كيف يُقعد الذنب الإنسان؟ مثلًا في معركة أحد تحوّل الانتصار إلى هزيمة بسبب التقصير الجماعي للمسلمين. أي أنّ المسلمين انتصروا في البداية، لكن الرماة الذين يفترض أن يبقوا عند شق الجبل ليحفظوا ظهر الجبهة من النفوذ والتسلل، طمعوا بالغنائم وتركوا متاريسهم وتوجهوا نحو الساحة، فالتفّ العدو من الخلف ونفّذ هجومه، فمزّق المسلمين وكانت هزيمة أُحد بسبب ذلك. وقد تحدثت عشر أو اثنتا عشرة آية من سورة آل عمران عن قضية الهزيمة تلك، لأنّ المسلمين كانوا يعيشون اضطراباً شديداً بسبب تلك الهزيمة، وكانت ثقيلة عليهم كثيراً، فجاءت آيات القرآن تلك لتهبهم الاطمئنان وتهديهم، ولتفهمهم سبب هزيمتهم وسبب ذلك الضعف، إلى أن يصل إلى الآية الشريفة: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) (آل عمران: 155). أي ما رأيتموه في معركة أُحد من استدبار بعضكم للعدو وتسبب بالهزيمة كانت له أسبابه ومقدماته، فكان هؤلاء يعانون من ضعف داخلي، فقد أزلهم الشيطان بمساعدة الأعمال التي كانوا قد ارتكبوها من قبل، أي أنّ ذنوبهم السابقة قد تظهر آثارها في الجبهة، في الجبهة العسكرية أو السياسية أو عند مواجهة العدو أو عند ممارسة البناء أو في ممارسة التعليم والتربية، وحيث تجب الاستقامة، وحيث يجب الفهم والإدراك الدقيق، وحيث يجب أن يكون الإنسان كالفولاذ يقطع ويتقدم ولا تقف الموانع بوجهه. طبعاً تلك هي الذنوب التي لم تمحها التوبة النصوح والاستغفار الحقيقي.

في نفس السورة هناك آية أخرى تبين هذا المعنى بصورة أخرى. القرآن يريد أن يقول لا عجب أنكم تلقيتم الهزيمة وواجهتم مشكلة في جبهة الحرب، فمثل هذه الأمور تحصل، وقد حصلت من قبل، فيقول: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللَّه وما ضعفوا وما استكانوا واللَّه يحب الصابرين) (آل عمران: 146) أي ما الذي دهاكم وأصابكم من تزلزل وأحسّ بعضكم بالضعف واليأس بسبب هزيمتكم في معركة أُحد؟ فالأنبياء السابقون قد تعرضوا لحوادث أيضاً في ساحة الحرب لكنهم لم يضعفوا ويهنوا بسبب ما أصابهم، ثم يقول: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ...) (آل عمران: 147).
أي أنّ أصحاب الأنبياء كانوا إذا واجهوا المصائب في الحروب والحوادث المختلفة كانوا يتوجهون إلى الدعاء إلى اللَّه ويقولون: «ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا»، وهذا يدل على أن الحوادث والمصائب ناتجة أساساً عن الذنوب التي يحتطبها الإنسان. تلك هي قضية الذنوب.

لذلك أنعم اللَّه على الإنسان بنعمة كبيرة هي المغفرة، فبيّن أنّ الندم على الذنب الذي يترك أثراً عادة مكانه باب التوبة والاستغفار فإنه مفتوح. فالذنب الذي ارتكبته كالجرح الذي أحدثته في بدنك وأدخلت بذلك الميكروب إليه، فالمرض حتمي. إذا أردت أن تقضي على أثر هذا الجرح والمرض في وجودك، فقد فتح اللَّه تعالى لك باب التوبة والاستغفار والإنابة والعودة إلى اللَّه، فإن عدت سيجبر اللَّه تعالى النقص، تلك هي النعمة الكبرى التي منّ اللَّه تعالى بها علينا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد