مقالات

ضيافة اللّه في شهر رمضان


السيد عبدالحسين دستغيب

لشهر رمضان المبارك أسماء كثيرة: شهر التوبة، شهر الإنابة، شهر تُمحى فيه السيئات، إلى ما يقرب من مائة اسم على ما يستفاد من بعض الأدعية الواردة في هذا الشهر، ولكن الاسم الأهم والأعظم من هذه الأسماء كلها هو (شهر اللّه).
إن اللّه تعالى نسب هذه الفترة الزمنية إلى نفسه وزادها تشريفاً في ذلك، وكما أنه ورد في الروايات أن الكعبة المعظمة تحشر يوم القيامة ويأتي بها سبعمائة ألف ملك يوردونها القيامة بسلاسل من ذهب، ويؤمر في ذلك الوقت أن الكعبة تشفع لكل من زارها، كذلك شهر رمضان يأتي يوم القيامة على أحسن الصور، ويشفع لأهله أي لكل من احترمه، وفي الواقع لكل من احترم اللّه رب العالمين لأنه (شهر اللّه).

*شهر اللّه والرحمة والبركة
روى الشيخ الصدوق في الأمالي بسند متصل أن خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقف في آخر جمعة من شهر شعبان، وأنشأ هذه الخطبة الطويلة: "أيها الناس قد أقبل إليكم شهر اللّه"، ليس هناك تعبير أفضل من هذا التعبير (شهر اللّه)، سوف تأتي فترة من الزمن وهي منسوبة إلى خالق العلى توبوا، اغتسلوا، ادخلوا هذا الشهر وأنتم مطهرون أنقياء، "بالبركة والرحمة والمغفرة"، هذا الشهر المقبل يأتي بالبركة، البركة بمعنى الزيادة.
البذر الذي يغرسه الزارع في الأرض يبارك أي يتضاعف من سبعة إلى سبعمائة، والشهر المبارك هو شهر البركة، من يقرأ في هذا الشهر آية من القرآن كمن يختم القرآن ختمة كاملة في بقية الأشهر، ومن يصلّي ركعتين نافلة في هذا الشهر فكأنه صلّى ركعتي واجبتين في باقي الشهور، والإنفاق في هذا لشهر يتضاعف عن الأشهر الأخرى حتى يصل الألف. إن بركة هذا الشهر عظيمة إلى حد يصبح نومكم فيه عبادة، الرحمة والمغفرة اللتان يأتي بهما هذا الشهر كثيرتان إلى حد أن الباب مفتوح أمام الجميع (شهر هو عند اللّه أفضل الشهور، ولياليه أفضل الليالي وأيامه أفضل الأيام).

* الدعوة إلى ضيافة اللّه
(وهو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللّه)) دعيتم في هذا الشهر المبارك إلى ضيافة اللّه والداعي لكم هو رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم داعي رب العالمين، كنتم فارين من اللّه مدة أحد عشر شهراً، كنتم بعيدين عن اللّه، والآن تعالوا انزلوا ضيوفاً لمدة شهر وانظروا إلى ضيافة رب العالمين، ضيافته سبحانه عبارة عن الألطاف الخاصة بأهل الإيمان وخيط من الرحمة الرحيمية، وإلا فإن رازقيته ليست خاصة بشهر رمضان ولا بالمسلمين فقط ولا بالكافرين والإنسان والحيوان، أما ألطافه تعالى فهي خاصة بشخص تخدمه الملائكة.

* لذة الأنس بذكر اللّه
إحدى هذه الضيافات الإلهية الأنس، فإن لذة المؤمن بالأنس برب العالمين، الأنس بذكر اللّه، تنسيه كل لذائذ الدنيا، ففي الرواية أن موسى بن عمران عندما كان على جبل الطور للمناجاة يشرب حتى قطرة ماء واحدة، ويأكل لقمة خبز أربعين يوماً، وكان غذاء روحه وجسده الأنس بالكلام مع رب العالمين، ففي غير الشهر المبارك تكون لذة الأنس والذكر ورقة القلب أقل مما هي فيه، وأما في شهر رمضان فإنه ببركات هذا الشهر العزيز يكون الإنسان أقرب إلى ربه، ويكون أنسه به أكثر، أين أبناء الدنيا الذين يتخيلون أن اللذة في الجاه والمقام وجمع الأموال وأتباع الشهوات؟ ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولًا؟ فمن يتبع شؤون الدنيا لا يحصل على شيء من لذائذ الآخرة.

* ضيافة رب العالمين
إجمالاً وكما أن اللّه عظيم فضيافته سبحانه عظيمة، إذا دعا شخصي عظيم ضيفاً كيف تكون ضيافته له؟ طبعاً سوف يكون إكرامه له متناسباً مع شأن الداعي، واللّه تعالى الذي هو ملك الملوك ورب العالمين، إكرامه للضيف إلى حد أنه يجعل الأمور الطبيعية الخارجة عن قدرة الإنسان يجعلها مساوية لذكره. {أنفاسكم فيه تسبيح} النّفس الذي يذهب ويجيء يسجل ثواباً كقولنا سبحان اللّه في سجل أعمالنا، فضيف الرب لنَفَسه قيمة، النقطة التي خطرت ببالي أنه لو أن شخصاً أصبح في هذا الشهر ضيفاً للشيطان لكان بالمقابل كل نفس يوصله إلى سوء الحظ والدناءة، قال الشيخ التستري في ضمن مواعظه في ما يتعلق بهذه الجملة (أنفاسكم فيه تسبيح) الشخص المتوسط النفس يتنفس في اليوم والليلة واحداً وعشرين ألفاً وستمئة مرة، فبهذا المقدار يسجل للإنسان حسنات في كل يوم وليلة من شهر رمضان المبارك، هذا بقطع النظر عن الذكر والدعاء والصلاة وقراءة القرآن، فكم يكون الإنسان مملوء اليد بعد شهر رمضان المبارك إن هو أصبح ضيفاً لله وخالف نفسه وهواه؟.

* المذنب ليس ضيفاً لله
سيء الحظ ذلك الشخص الذي يكون بعيداً عن تلك السُفرة العامرة، ولا يطلب شيئاً سوى شهوات الدنيا (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ويرد إلاّ الحياة الدنيا) يستفيد الشيخ (الشوشتري) من هذه الآية أن هذه الضيافة ليست لمن يكون كل همه الدنيا، لأن اللّه يقول لنبيه: أعرض عمن تولى عن ذكرنا ويرد إلا الحياة الدنيا، هذه الدعوة (إلى الإسلام) هي خاصة بالذين لا يرتكبون المعاصي لكي تكون عندهم قابلية لضيافة رب العالمين، ومن جملة استضافات رب العالمين استجابة الدعاء وقبول الأعمال (نومكم فيه عبادة) نومكم في هذا الشهر عبادة، (عملكم فيه مقبول) الشروط الصعبة التي لا بد منها لقبول العمل في سائر الشهور تصبح ببركة هذا الشهر العزيز سهلة، فعملكم مهما كان قليلاً فهو في هذا الشهر مقبول (دعاؤكم فيه مستجاب)، كل ما تطلبونه من اللّه في هذا الشهر ينفّذ، لأن دعاءكم فيه مستجاب، ولكن بشرط أن تكونوا ضيوفاً تردون على بساط الخالق. الشوشتري يقول: هذا المضيف له عدة أبواب. جدّوا في الدخول، فإذا كان أحد الأبواب مغلقاً ادخلوا من باب آخر، فلا بد وأن يفتح لكم أحد هذه الأبواب، باب التوبة، باب الإنابة، الورع، باب التقوى، التوبة بمعنى الرجوع، فإن رأيت أن وضعك تغير وندمت ندامة شديدة على ما مضى منك وصمّمت أن لا تعصي في المستقبل ولا تتلوث بغبار المعصية، حينئذ تقدم إلى الأمام وادخل باب التوبة، فإذا تعذر ذلك وما زال فيك عيب أنب، والإنابة هي تعويض ما فات فتداركه استدراك ما خالفت به، الإنابة بمعنى الإصلاح، فإذا رأيت باب الرحمة يفتح أمامك تمسك بباب الورع. كفّ عما هو مشتبه به فما نهى عنه لا كلام في تركه، ولكن ابتعد عن المكروهات فلعل باب الرحمة يفتح أمامك ببركة ترك ذلك المكروه.

* الاتكال على رحمة اللّه
فإذا رأيت أن باب رحمة اللّه يفتح فلا تيأس، فإن هناك باباً في النهاية لا ييأس منه أحد، قال أحد العظماء إن الشيطان أتى هذا الباب ويرجع محروماً، وذلك الباب هو الاعتماد على الكرم الإلهي، أنا وأنت لسنا أخس من الشيطان، فكيف اتكل الشيطان على كرم اللّه وطلب منه أن يمهله إلى يوم القيامة؟ فلنقل معاً إلهنا وإن كنا لا نستحق ضيافتك لكننا نرجو بكرمك أن تجعلنا من جملة ضيوفك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد