السيد عباس نور الدين
قد تعجب إذا سمعت أنّ هناك سيّئة واحدة تكفي لدخول الإنسان إلى جهنّم وبئس المصير، وأنّ هناك حسنة واحدة كافية لبلوغ الجنّة والرضوان. وهذا يعني أنّه لو قام الإنسان بكلّ أعمال البر ولم يتخلّص من تلك السيّئة، فكأنّه لم يفعل شيئًا؛ وأنّه إذا ارتكب ذنوب الثقلين وأتى بتلك الحسنة، فإنّ الله تعالى سيغفر له ويرحمه!
يبدو هذا الطّرح مخالفًا لكثير ممّا سمعناه حول الآثار الدقيقة للأعمال التي تجري وفق قاعدة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[1].. وقد يتصوّر البعض أنّ مثل هذه القضيّة معارضة للعدل الإلهيّ! فهل يُعقل أن يغفل الله تعالى كلّ الأعمال الصالحة العظيمة بسبب خطيئة واحدة؟ أو أن يقدّم على هذا الشخص من لم يأتِ سوى بحسنةٍ واحدة؟!
أوّل فكرة يجب تصحيحها هنا هي قضيّة العدل هذه. فلو كنّا ملتفتين إلى أساس الحساب ومحوره لما تسرّعنا بطرح قضيّة العدل؛ لأنّ الحساب كلّه يوم القيامة يكون على أساس مخالفة الله تعالى وموافقة إرادته، وليس على أساس المقارنة بين الخلق وبين الأعمال.
والفكرة الثانية التي نحتاج إلى معرفتها جيّدًا ـ وهي التي تُعدّ أساس الحديث هنا ـ هي أنّ لله تعالى إرادة واحدة تتجلّى بـ "الأمر الواحدة"، كما في قوله تعالى: {وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ}.[2]وسرّ ذلك لا يخفى على من عرف الله حقّ المعرفة، وأدرك أنّه لا معنى ولا حاجة لتعدّد الإرادات بالنسبة لله تعالى، وأنّ التكثّر الذي نلحظه في إرادة الله في عالمنا، إنّما هو من حيثيّة نظرنا نحن، ويرتبط بطبيعة وجودنا وحركتنا من النقص إلى الكمال. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
فلا يُعقل أن يكون لمن له هذه القدرة المطلقة والحكمة البالغة عدّة إرادات، وكأنّه مخلوقٌ يسعى لبلوغ غايته بالتدريج، فينشئ إرادة أولى لخلق أو فعل شيء، ثمّ ينشئ إرادة ثانية لتحقيق مُراد آخر، وهكذا.. فما يريده الله تعالى مجتمعٌ كلّه في علمه، ولا يحتاج معه إلى تصوّره وبنائه بالتدريج. وكلّ تدريج وسير وتحوّل إنّما يكون بالنسبة لنا، نحن الذين نسير ونتحوّل في هذا العالم الواحد الذي تحقّق عند الله سبحانه.
إنّ ما أراده الله تعالى قد تحقّق كلمح بالبصر، ولا يوجد عند الله مسار يتدرّج فيه ويقطعه ليصل إلى غايته من الخلق والإيجاد. فنحن الذين نمشي في هذا العالم، كالنمل الذي يسير على سجّادة كبيرة، فيتعرّف كل حين إلى أمرٍ جديد، ويكون لسيره مستقبل وماضٍ وحاضر.
وقد تجلّت إرادة الله تعالى في عالم الوجود بأن يكون له خلفاء في أرضه، يكون لهم مقام ظهور إرادته الواحدة. فهم يعملون بأمره ومتوافقون مع إرادته بحيث لا يمكن أن نجد فيهم ما يخالف هذه الإرادة التكوينيّة الواحدة. أو فقل: إنّ إرادة الله الواحدة قد تجلّت في شخصيّة هؤلاء وسيرتهم وفعلهم وموقعيّتهم، حتّى صارت مخالفتهم هي مخالفة لإرادة الله، وطاعتهم هي طاعة له: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله}.[3]
والأمر الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّ إرادة الله الواحدة هذه قد ظهرت وتجلّت في إرادتين؛ الأولى: خلق الجنّة، والثانية خلق النار. وهما معًا يحقّقان ويُظهران الإرادة الواحدة التي تجلّت في عالم الوجود بكلّ أركانه (والذي هو متحقّق عند الله حتمًا).
فكما أنّه لا يمكن مخالفة إرادة الله في خلق العالم، لا يمكن مخالفة الله في خلق الجنّة والنار، ومن المستحيل أن نقنع الله تعالى ـ إن صحّ هذا التعبير ـ بالعدول عن خلقهما.
ولأنّ الجنّة بأهلها وناسها، ولأنّ النار كذلك، فلا بدّ من وجود خلق للجنّة، بهم تعمر، وبها يخلدون. وهكذا الأمر بالنسبة لجهنّم، فلا بدّ من أُناس يشعلونها، وتشتعل بهم، وتحرق غيرهم أيضًا. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس}.[4]
فالحسنة الكبرى أو الحسنة الواحدة هي: التوافق مع إرادة الله الواحدة التي تجلّت في عمل أوليائه وسيرتهم ودورهم. والسيّئة الكبرى أو الواحدة، التي لا ينفع معها حسنة، هي مخالفة أوليائه فيما لهم. والأمر هنا ليس منحصرًا في عالم التشريع والاعتبار.
فالموافقة أمرٌ وجوديّ، يظهر في حركتنا المتوافقة مع عمل الأولياء. وإذا كانت حركتنا نمط عيشٍ ومسيرة حياة، فهي الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة، لأنّنا جعلنا وجودنا وماهيّتنا متوافقة مع إرادة الله الواحدة. أمّا إذا كان مسار حياتنا مخالفًا لحركة الوليّ ودوره، فهذه هي السيّئة التي لا تنفع معها حسنة؛ وكيف ينفع ما خالف إرادة الله الواحدة (المراد الوحيد لله تعالى).
إنّ أجمل تشبيه وتقريب لهذه القضيّة هو ما ذكره الإمام الصادق(ع) حيث قال: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَأُعَذِّبَنَّ كُلَّ رَعِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ أَطَاعَتْ كُلَّ إِمَامٍ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ بَارَّةً تَقِيَّةً؛ وَلَأَعْفُوَنَّ عَنْ كُلِّ رَعِيَّةٍ أَطَاعَتْ كُلَّ إِمَامٍ عَادِلٍ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ ظَالِمَةً مُسِيئَةً".[5]
وهذا الأمر لا ينحصر بالرابطة العاطفيّة والعُلقة القلبية؛ فمن الممكن أن تكون القلوب مع الوليّ وسيوفها عليه، كما حدث مع أهل الكوفة تجاه الحسين سبط النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). ورُبّ عاشقٍ لأولياء الله قد يكون مسار حياته مخالفًا لدورهم وإرادتهم الواحدة (وهو ما نعبّر عنه بمشروعهم الكبير الأساسيّ الوحيد)، فلا ينفعه هذا العشق هنا أبدًا، إلّا إذا بدّل مسار حياته. أجل، من الصعب أن لا يؤدّي العشق مثل هذا الدور الإصلاحيّ الكبير.. إلّا أنّ هذا التفكيك ضروريّ لفهم القضيّة؛ وفرض المحال ليس بمُحال. فما لم تتجلَّ العُلقة العاطفيّة بالوليّ في صورة العمل والحركة العامّة الكليّة الموافقة له، فلا ينفعنا ذلك أبدًا، ونكون بذلك قد خسرنا كلّ شيء.
ولا يقدر على إدراك مثل هذه القضيّة إلّا من أحكم معرفة معنى الإرادة الإلهيّة، وهي الكلمات التي تمّت صدقًا وعدلًا، ولا مبدّل لها.
وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه القضية تحت عنوان الولاية، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي حمزة الثمالي قال: "قال لنا علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام: "أَيُّ الْبِقَاعِ أَفْضَلُ؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عُمِّرَ مَا عُمِّرَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ، أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عامًا، يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ وَلَايَتِنَا، لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئًا".[6]
وفي رواية أخرى، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: "أَمَا لَوْ أَنَ رَجُلًا قَامَ لَيْلَهُ، وَصَامَ نَهَارَهُ، وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَحَجَّ جَمِيعَ دَهْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ وَلَايَةَ وَلِيِّ اللَّهِ فَيُوَالِيَهُ، فَتَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ بِدَلَالَتِهِ إِلَيْه،ِ مَا كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فِي ثَوَابِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَان".[7]
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)