مقالات

من آيات الحرَم المكيّ


 الشريف الرضي

من آيات الحرم التي لا توجد في غيره، أنّ الوحش والسباع إذا دخلَته، وصارت في حدوده، لا يقتل بعضها بعضاً، ولا يؤذي بعضها بعضاً، ولا تصطاد فيه الكلاب والسباع سوانح الوحش التي جرت عادتها بالاصطياد لها، ولا تعدو عليها في أرض الحرم، كما تعدو عليها إذا صادفتها خارج الحرم، فهذه دلالة عظيمة وحجّة بيّنة على أنّ الله تعالى هو الذي أبان هذا البيت وما حوله، بهذه الآية، من سائر بقاع الأرض، لأنّه لا يقدر أن يجعل هذه البقعة التي ذكرناها، على ما وصفناه منها، وأن يحُول بين السباع فيها وبين مجاري عاداتها، وحوافز [جمع حافزة من حفزه: إذا دفعه من خلفه] طبائعها وعمل النفوس السليطة [الشديدة] التي رُكّبت فيها، حتى تمتنع من مواقعة الفرائس، وقد أكثبت لها [دنتْ منها] وصارت أخْذ أيديها، بل تأنسُ بأضدادها، وتأنس الأضداد بها - إلّا الله سبحانه، لأنّ هذا خارج عن مقدار قوى المخلوقين وتدابير المربوبين.

ومن الآيات التي خصّ الله تعالى هذا الموضع بها مقام إبراهيم عليه السلام في الصخرة، من حيث ألانَ اللهُ سبحانه له أصلادها [جمع صلد وهو: الصلب] بعد الصلابة، وخَلخلَ أجزاءها بعد الكثافة، حتى أثّرت قدمُه فيها راسخةً، وتَغلغلت سائخة، كما يتغلغل في الأشياء الرخوة والأرض الخوّارة [السهلة الليّنة].
ومنها ذهابُ حصى الجمار وعدَمه وخلوّ مواضعه منه، على كثرة الرامين به واجتماعه في مواضعه، ولولا أنّه سبحانه جعل تقليل كثيره وإعدام موجوده من بعض آيات تلك البقعة، لساوى الجبال أظلالاً، وجعل البطحاء جبالاً، لا سيّما وليس موضع الجمرتين الأُولتين، خاصّة، موضعَ مسيل ماءٍ ولا طريق سيل، فيظنّ الظانّ أنّ السيول تذهب بحصاهما، وتفرّق ما يجتمع فيهما.

ومنها امتناع الطير من العلوّ على البيت الحرام، حتى لا يطير طائرٌ إلّا حوله من غير أن يعلو فوقه، ثمّ استشفاء المريض (منها) به على ما تناصر الخبر بذكره.
فأمّا الذي شاهدته أنا عند مقامي بمكّة في السنة التي حججتُ فيها، فامتناع الطير من التحليق فوق البيت، حتى لقد كنت أرى الطائر يدنو من المطرح السحيق والمنزع البعيد، في أَحَدِّ طيرانه وأسرع خفقان جناحه، حتى أقول: قد قطع البيتَ عالياً عليه وجائزاً به، فما هو إلّا أن يقرب منه حتى ينكسر منحرفاً ويرجع متيامناً أو متياسراً، فيمرّ عن شمال البيت أو يمينه، كأنّ لافتاً يلفته أو عاكساً يعكسه، وهذا من أطرف ما شاهدته وجرّبته.

فأمّا اختلاطُ الطير بالناس هناك، حتى لا تنفر من ظلالهم، ولا تتباعد عن همْس أقدامهم، فهو شيءٌ بيّنٌ واضح، ولعهدي بجماعات من المصلّين في المسجد الحرام، وهم يُكفكفون الطير بأيديهم عن مواضع سجودهم، لشدّة قربها منهم واختلاطها بهم. ولقد رأيت ظبياً وحشياً يتخرّق الأسواق، ويقفُ على جماعةٍ من بائعي الأقوات، فربما انتشط[اختلس بفمه] نشطةً، أو اجتذب الشيء بعد الشيء خلسةً، وعليه سيماء الساكن ودَعَة المطمئنّ الآمن، حتى ربما طُرد فلم يَرعه الطرد، ولم يُفزعه الإيماء باليد. وقيل لي - ولم أرَه: إنّه إذا جاوز أنصاب الحرم [أي حدوده] خرج كالسّهم المارق، أو البرق الخاطف، كأنّ الروعة إنّما أدركَته بعد خروجه من حدود الحرم ودخوله في أراضي الحِلّ، فتبارك الله رب العالمين!

 ومنها تعجيل العقوبة لمَن انتهك حرمتَه.. ومثل ذلك ما فعله الله تعالى في الجاهلية بمَن قصد البيت الحرام لإحرابه، والحرم لانتهاكه، عامَ الفيل، من تعجيل النقمات وإنزال المثلات [جمع مَثُلة بفتح وضمّ وهي العقوبة]، وبروك الفيل بالمغمّس [موضع بطريق الطائف إلى مكّة]، حتّى لم يقدم به الزجرُ الشديد والسَّوق العنيف. وحديثُ ذلك يطول.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد