مقالات

البكاء عند المصيبة


السيد عبدالحسين شرف الدين

حُزنُ الإنسان عند موت أحبّته، وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة، ما لم يصحبهما شيء من منكرات الأقوال أو الأفعال.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديث عنه صحيح أخرجه الإمام أحمد عن ابن عبّاس: «مَهْما يَكُنْ مِنَ القَلْبِ وَالعَيْنِ فَمِنَ اللهِ وَالرَّحْمَة، وَمَهْما يَكُنْ مِنَ اليَدِ وَاللِّسانِ فَمِنَ الشَّيْطانِ».
والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرّة على ذلك من غير نكير، وأصالة الإباحة تقتضيه.
على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله نفسَه بكى في مقامات عديدة، وأقرّ غيره على البكاء في موارد، واستحسنه في موارد أُخر، وربّما دعا إليه.
بكى على عمّه الحمزة أسدِ الله وأسدِ رسوله؛ قال ابن عبد البرّ وغيره: «لمّا رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله حمزة قتيلاً بكى...».
وقال الواقدي: «وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم».
وعن أنس قال: (خطب النبيّ صلّى الله عليه وآله - إذ كان جيش المسلمين في مؤتة - فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» - وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لَتَذْرِفَانِ) (...)

وعن أنس من حديثٍ أخرجه البخاري في (صحيحه) قال فيه: ثمّ دخلنا عليه صلّى الله عليه وآله، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟ فقال: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»(...)
وفي ترجمة جعفر من (الاستيعاب) قال: لمّا جاء النبيَّ صلّى الله عليه وآله نعيُ جعفر، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها، قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: واعمّاه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «عَلى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ البَواكي».
وذكر أهل السِّير والأخبار كابن جرير وابن الأثير وابن كثير وصاحب (العقد الفريد) وغيرهم، ما قد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في مسنده، من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا رجع من «أُحد» جعلت نساء الأنصار يبكينَ على مَن قُتل من أزواجهنّ، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ». قال: ثمّ نام فانتبه وهنّ يبكين، قال: «فَهُنَّ اليَوْمَ إِذا يَبْكينَ يَنْدُبْنَ حَمْزَةَ».
وفي ترجمة حمزة من (الاستيعاب) نقلا عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت - بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ» - إلى اليوم، إلّا بَدَأْنَ بالبُكاء على حمزة.

قلت: حَسْبُكَ تلك السيرة المستمرّة على بكاء حمزة من عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعهد أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وكفى بها في رجَحَان البكاء على من هو كحمزة، وإن بعُد العهد بموته.
ولا تنسَ ما في قوله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ» من العتَب عليهنّ لعدم نياحتهنّ عليه، والبعث لهنّ على ندبه وبكائه. وحسبك به وبقوله صلّى الله عليه وآله: «عَلى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ البَواكي» دليلاً على الاستحباب.
ومع ذلك كلّه فقد كان من رأي الخليفة عمر بن الخطّاب النهي عن البكاء على الميّت مهما كان عظيماً، حتّى أنّه كان يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة، ويحثو التُّرابَ، يفعلُ هذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، واستمرّ عليه طيلة حياته.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عبّاس من جملة حديثٍ ذكر فيه موت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبكاء النساء عليها، قال: فجعل عمر يضربهنّ بسوطه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «دَعْهُنَّ يَبْكِينَ»، وقعد على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي، قال: فجعل النبيّ صلّى الله عليه وآله يمسح عين فاطمة بثوبه رحمةً لها.
وأخرج أيضاً في مسند أبي هريرة حديثاً جاء فيه: أنّه مرّ على رسول الله صلى الله عليه وآله جنازةٌ معها بواكي فنهرهنّ عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «دَعْهُنَّ فَإِنَّ النَّفْسَ مُصابَةٌ، وَالعَيْنَ دامِعَةٌ».
وكانت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، فكان عمر وابنه عبد الله يرويان عن النبيّ أنّه صلّى الله عليه وآله قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ».وفي رواية: «بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ». وفي ثالثة: «بِبُكاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ». وفي رابعة: «يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ». وفي رواية خامسة: «مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّبُ». وهذه الروايات كلّها خطأ من راويها بحكم العقل والنقل.

قال الفاضل النووي (حيث أورد هذه الروايات في باب «الميّت يعذَّب ببكاء أهله عليه» من شرح صحيح مسلم): «هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله. (قال): وأنكرتْ عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه واحتجّت بقوله تعالى: ﴿..وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..﴾ الأنعام:164».
قلت: وأنكر هذه الروايات أيضاً ابن عبّاس، وأئمّة أهل البيت كافّة، واحتجّوا على خطأ راويها، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتّى ناحت على أبيها يوم وفاته، فكان بينها وبينه ما قد أخرجه الطبري عند ذكر وفاة أبي بكر في حوادث سنة 13 من الجزء الرابع من (تاريخه) بالإسناد إلى سعيد بن المسيّب.
قال: لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء عليه، فأبينَ أن ينتهينَ، فقال عمر لهشام بن الوليد: أدخل فأخرِج إليّ ابنة أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أُحَرِّجُ عليك بيتي. فقال عمر لهشام: أُدخل فقد أذنتُ لك، فدخل هشام فأخرج أمّ فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرّة فضربها ضرباتٍ فتفرّق النوَّح حين سمعوا ذلك.

وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحّي الزهراء عن البلد في نياحتها على أبيها صلّى الله عليه وآله، وخروجها بولديها في لمّةٍ من نسائها إلى البقيع يندُبنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، في ظلّ أراكة كانت هناك، فلمّا قُطعت بنى لها عليٌّ عليه السلام بيتاً في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة يُدعى بيت الأحزان، وكان هذا البيت يُزار في كلّ خلَفٍ من هذه الأُمّة...

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد