مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

المثقف بين أزمة التاريخ وحاجة التوثيق (1)

 

إيمان شمس الدين
إن القراءة التاريخية المنصفة، هي القراءة التي تبتعد عن أي أهواء طائفية ومذهبية وتدرس حراك الشخصيات التاريخية المهمة والمعصومة على أنه حراك هادف لتحقيق غايات عليا أهمها رضا الله تعالى وتوحيده على الأرض، وإقامة العدل ورفع الظلم عن المظلومين مهما كانت مذاهبهم ومرجعياتهم الفكرية، لأن الظلم ومواجهته لا يختص بإنسان دون إنسان، وصريح القرآن يخاطب رسول الله قائلا: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.  لتوحيد الجبهات في وجه الظالمين والمستكبرين مهما كانت هوياتهم وانتماءاتهم، لأن الظلم والاستكبار لا يخص جهة دون جهة وفئة دون فئة.
ونحن هنا لا ننكر نقل الأحداث التاريخية، ولكن ننكر تقديس هذه الأحداث والوقوف عندها بطريقة تبث الفتنة والفرقة وتضرب وحدة الصف، بدل أن تحقق أهداف هذه الأحداث وغاياتها وعللها.
فالقراءة المقاصدية والغائية المنصفة للتاريخ والبعيدة عن الأهواء والمنطلقات الشخصانية والمذهبية والطائفية، هي الكفيلة في أن تجعل من تاريخنا كتابًا ذاخرًا نبني منه مستقبلًا مشرقًا وحضارة بناءة، ونخرج من أسر الأموات إلى سماء الأحياء لنرسم لهم الحاضر بأصالة الماضي وثقافة الحاضر، فلكل حقبة زمنية أهلها وهم المسؤولين عنها، والقرآن يؤكد حينما يروي قصص الأولين على عدة أمور أهمها:
١. أخذ العبر والدروس من تلك القصص.
٢. استلهام السنن والقوانين التي تحكم التاريخ.
٣. أن تلك الأمم لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولسنا معنيين بأفعالهم بل معنيين بالاعتبار منهم وأخذ ما يصب في الطريق المستقيم، وعدم تكرار ما قاموا به وأدى لتفتتهم واندثار هويتهم وحضارتهم ومكتسباتهم ومنجزهم المعرفي.   
فالسنن التاريخية حتميات تقع مهمة تمظهرها كواقع على إرادة الإنسان واختياره، وهما العلة التي بها تكتمل العلة التامة، ومن يسير عكس السنن فإن سيره سيصل إلى نقطة مفصلية، لتنقلب ضده الأمور بعد ذلك وتعود المسيرة نحو سيرها الطبيعي التكاملي.


المثقف وأزمة التاريخ:
تختلف البنية المعرفية للمثقف ما بعد العولمة، عن بنيته ما قبل العولمة، وهو ليس اختلافًا في الجذور وإنما في التشكيلات المعرفية الفوقية، التي ضعضعت عند بعضهم الأصول بسبب الكشوفات المعرفية التي أماطت اللثام عن حقيقة التاريخ، ومدى وثاقة ما تم نقله إلينا من رواية تقص علينا أحداثه بما تحمله من موروث ديني من جهة، وما تحمله من دلالات ومحمولات معرفية من جهة أخرى.
وخاصة مع إماطة اللثام عن مناهج علمية رصينة في قراءة التاريخ، استطاعت رسم خارطة طريق أولية لأحداث التاريخ في الماضي، وكيف على ضوء هذه المناهج تهاوت كثير من المسلمات المعرفية، التي شُيِّدت عليها ووفقها كثير من الأفكار والمعتقدات والمسارات، وانهيارها بعد تطبيق المناهج الجديدة في قراءة التاريخ عليها، قوض أغلب تلك التركيبة الذهنية المعرفية المرتبطة بها. خاصة مع غياب الممارسة النقدية السليمة، والتسالم الاطمئناني في النقل بين الشخصيات العلمية الكبيرة، التي طغت علميتها وعظم إنجازاتها رغم بشريتها على الجو العلمي العام، وساهم ذلك في نشوء هيبة علمية في ذهنية اللاحقين، منعتهم عن النقد والتقييم والمراجعة لنتاجهم المعرفي ونقلهم التاريخي خاصة فيما يتعلق في النصوص الدينية، أو ما يتعلق بالأحداث التاريخية بشكل عام والمشهد الديني فيها بشكل خاص، مع اكتشاف مخطوطات جديدة وحفريات أماطت اللثام عن حقب تاريخية كشفت لنا مشهدًا آخر من التاريخ الموروث كتابة ونقلًا.
طبعًا نحن هنا لا نقيم المناهج القارئة للتاريخ، ولا ما توصلت له من نتائج، ولكننا نوصف مسارًا معرفيًّا في شكل البنية المعرفية وكيفية تكوينها ومصادر هذه المعرفة التي شكلت معارف المثقف، والمؤثرات التي لعبت دورًا في تغيير هذه البنية وتقويض بعض أسسها، أو تغيير بعض مساراتها ومسلماتها، بل وثوابتها.


ومع تطور الحركة العلمية ومناهجها في قراءة التاريخ، وما تحقق من انكشافات على يد كثير من روادها، وإعادة استثمار هذه المناهج من قبل المتخصصين في التاريخ الإسلامي، وكشف كم التزوير الذي تم في كتابة التاريخ من قبل المؤرخين أو ضياع أحداث تاريخية لأسباب أهمها:
 ١. قيام السلطة الحاكمة بالهيمنة على عملية كتابة التاريخ، من خلال شراء كثير من العلماء والمؤخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، ودفعهم لكتابة تاريخ يتناسب ومرادهم وطموحات السلطة.
٢. ونتيجة هذا الدس من قبل السلطة تولد رد فعل معاكس من قبل تيار حاول كتابة التاريخ، لكنه فعل ذلك كرد فعل، وهو ما قد يخضعه لانفعالات ذاتية تجعله غير موضوعي في النقل، وغير منصف حتى مع السلطة التي لا يواليها، فينقل التاريخ من وجهة نظره هو.٣. هناك من حركته العصبيات المذهبية والقبلية، وتحت شعار الدفاع عن الدين، أو الكذب بحجة الحفاظ على مدرسة هو ينتمي إليها، فقام بكتابة التاريخ ونقل الموروث منطلقًا من هذه المنطلقات والتحيزات، التي عادة تبعد المؤرخ أو الراوي عن الموضوعية والإنصاف العلمي، بل تمنعه من التحيز للحقيقة حتى لو خالفت مراده وأهدافه.
٤. هناك من كتب التاريخ ورواه ونقل الموروث بموضوعية وإنصاف، لكن هؤلاء قلة، وقد تصدى عبر التاريخ لهم إما السلطة الحاكمة، أو المخالفون لهم مما لا يريدون للتاريخ أن ينقل كما هو، فتمت إما ملاحقتهم، أو تم إخفاء كل منتجهم المعرفي وروايتهم التاريخية المنصفة، وقد كشفت بعض حملات التنقيب عن الأحافير والآثار، عن بعض المخطوطات المهمة في تلك الحقب الزمانية.
٥. الحروب وما خلفته من دمار طال المكتبات الإسلامية بما فيها من مخطوطات وموسوعات، كان تضم كثير من أحداث التاريخ ونصوصه خاصة النص الديني، وحرق كثير من المكتبات الخاصة ببعض الشخصيات الدينية، لأسباب بعضها مذهبي وطائفي، وبعضها جاء نتيجة الحروب الداخلية أو الإغارات من قبل الأعداء الخاوجيين.

إذًا نحن أمام أزمة ثقة بالمنقول من الموروث، لا تدفعنا للرفض المطلق له، ولا التسليم الاطمئناني الساذج إليه، بل تدفعنا لفتح باب دراسة هذا التاريخ على مصراعيه للمتخصصين، واستخدام المناهج الحديثة في عمل حفر عميق في بنيته الداخلية والخارجية، وإعادة كتابته بعد تخليصه من التزييف الذي أحكم الخناق عليه، وأيضًا يدفعنا إلى توثيق حاضرنا بطرق منهجية علمية تحفظ هذا الحاضر من أي محاولات تزوير للأجيال القادمة، لحل إشكالية وأزمة الثقة بالموروث التاريخي  التي ظهرت كسمة في هذا العصر بعد العولمة. 
والمثقف الناقد للاطمئنان التواضعي من قبل كثير من العلماء والنخب لما نقل من التاريخ، عليه أيضًا أن لا يقوم بالرفض المطلق للموروث التاريخي بحجة فقدان الثقة ضمن تفكير عشوائي غير منظم، بل عليه أن يبدأ الحفر لمعرفة الموروث التاريخي الواقعي وأحداثه الصحيحة والاستفادة من سننه وتجربته البشرية في حاضره، وهو ما يتطلب منه تفكيرًا منظمًا، يبني فيه رؤيته فكرة فكرة دون القفز من العام إلى الخاص أو بالعكس، ودون الاكتفاء بالنظرة السطحية للتاريخ، بل عليه الولوج إلى العمق والحفر في الداخل بتأن وصبر ليصل إلى نتيجة علمية رصينة غير متحيزة. " لأن عشوائية التفكير قد تفقد النقد قدرته على إصابة كبد الحقيقة، بل قد تقضي في بعض الأحيان إلى ضبابية الأفكار، والابتعاد عن جوهر الموضوع، وإرباك العمليات البحثية بتطويل المسافات عليها" 1 .
ــــــــ
 1- الشيخ حيدر حب الله ـ التفكير النقدي ـ محمد باقر الصدر أنموذجا

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد