الشهيد مرتضى مطهري
كلّ الذين خدموا البشرية، سواء عن طريق العلم أو الفكر أو الفلسفة والاختراع والاكتشاف أو الأخلاق والحكمة العمليّة، لهم حقّ على بني الإنسان، لكنّ أحداً من هؤلاء ليس له على البشرية حقّ كما الشهيد، وقلّما كان الشهداء مدينين لأحد.
* لماذا هذه المكانة للشهيد؟
والدليل واضح: العالم، والفيلسوف، والمخترع، ومعلّم الأخلاق، محتاجون إلى أجواء حرّةٍ مساعدة كي يقدّموا خدماتهم. والشهيد بتضحياته يوفّر هذه الأجواء. فهو كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين. الشهداء شموع البشرية على طريقها الواضح الطويل. لذا، يخاطب الله سبحانه نبيّه الكريم قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (الأحزاب: 45-46).
ولكلمة "الشهيد" في الإطار الإسلاميّ قداسة خاصّة، يراها الإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية حالةً مؤطّرة بهالة من نور، حيث إنّ الشهيد -في المعايير الإسلامية- هو الإنسان الذي نال درجة "الشهادة"؛ أي الذي بذل نفسه على طريق الأهداف الإسلامية السامية، ومن أجل تحقيق القيم الإنسانية الواقعية؛ فبذلك يبلغ بشهادته أسمى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيرته التكاملية.
* الشهيد في القرآن
يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن الشهداء: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169).
فالشهداء إذاً، "أحياء"، و"عند ربهم"، "يرزقون"، وما أعظمها من منزلة! لدرجة أنّ الروايات والأحاديث تكثر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها إنسان في حياته بمكانة الشهيد؛ لأنّها ذروة الرقيّ والتكامل في المسيرة الإنسانيّة، عندما تصف الكادّ على عياله بالشهيد، والمقتول ظلماً بالشهيد، وقائل الحقّ بالشهيد.
* سموّ الشهيد حتّى في جسده
نكتة إضافية تستدعي التأمّل في خصائص صاحب هذه المكانة، وهي أنّ أحكام الميت لا تطبّق على جسد الشهيد باستثناء الصلاة والدفن، أمَّا الغسل والتكفين، فلا يُطبقان عليه، فالشهيد يُدفن بدمه وبملابسه.
وهذا الاستثناء له مغزاه العميق، إنّه يرمز إلى أنّ روح الشهيد قد بلغت درجةً من السموّ والطَّهارة بحيث تركا آثارهما على جسد الشهيد وعلى دمه، بل وحتّى على ما يرتديه من لباس. فجسد الشهيد ولباسه قد اكتسبا الشرف من طهر روحه، وعلوّ فكره، وسموّ تضحيته، وشدّة يقينه ومعتقده حتّى بذل روحه في طريق مقدّس. وتلك دلالات أخرى على قداسة الشهيد في المفهوم الإسلاميّ.
* الشهادة: طريق الهدف المقدّس
إنّ الشهادة، بما تحمله من صفات سامية؛ كالوعي، والاختيار، وقدسيّة الهدف، وخلوّها من الميول الذاتية، هي عملٌ بطوليّ يبعث على الإعجاب والافتخار. هذا النوع من (الموت) هو وحده الذي يفوق (الحياة) عظمةً وقدسيّةً وأهميّةً.
1- للشهادة ركنان:
الأوّل: قدسيّة الهدف؛ أي أن يكون "في سبيل الله".
الثاني: أن تكون الشهادة قد تحقّقت عن علم ووعي.
2- للشّهادة وجهان:
الأول: وجهٌ مقدّس من جهة المقتول (الشهيد).
الثاني: وجهٌ بشعٌ إجراميّ في انتسابها إلى القاتل.
ففي فاجعة كربلاء هناك وجه يمثّل بشاعة القاتلين وإجرامهم واستفحال أهوائهم الدنيئة، لكنّ الوجه الآخر المرتبط بالإمام الحسين عليه السلام هو الشهادة؛ أي المقاومة الواعية الذكية على طريق الهدف المقدّس. فمع علم الإمام الحسين عليه السلام بالمصير الذي سيواجهه نتيجة مواقفه الحقّة الصلبة، رفض البيعة للطغاة رفضاً باتّاً، وأبى السكوت، وعدَّ المداهنة معصية ما بعدها معصية.
* مسؤوليات الجهاد والشهادة
1- الحريّة من براثن الشرك: ثمّة آيات عدّة في القرآن الكريم ذكرت ثلاثة مصطلحات مقرونةً بعضها ببعض (الإيمان) و(الهجرة) و(الشهادة). فإنسان القرآن موجودٌ مرتبطٌ بالإيمان، ومتحرّرٌ من كلّ شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع من براثن الكفر والشرك.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ(1) بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ(2) وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْداد(3) وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ(4) بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ(5) وَمُنِعَ النَّصَفَ(6)"(7).
بابُ الجهاد ليس مفتوحاً أمام الجميع؛ لأنّ وسام المجاهد لا يتقلّده إلّا من كان لائقاً بذلك، وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقلّد هذا الوسام، بل خاصّة أولياء الله لائقون بذلك فقط.
2- تحقيق التقوى التي يُحبّها الله: يصفُ الإمام عليّ عليه السلام الجهادَ بأنّه لباس التقوى. والتقوى تعني "الطهر الحقيقيّ" من الآثام كلّها.
ومن المعلوم أنّ جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية. ومن هنا، فإنّ المجاهد الواقعيّ أتقى الأتقياء؛ لأنّه ضحّى بكلّ وجوده، ولذلك اختصَّ بباب من أبواب الجنّة لا يناله سائر الطاهرين.
ويوضّح القرآن درجات التقوى بجلاء في الآية الكريمة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 93). وتوضّح الآية مفهومين رائعين من المفاهيم القرآنية:
الأوّل: تقوى في الحياة وحقوق الإنسان: فالنِعَم خلقت للإنسان، وهو قد خُلق للإيمان والعمل والتقوى، ويستطيع أن يتمتع بالنِعَم الإلهية إذا كان ملتزماً بالحركة على الخطّ التكاملي؛ أي على خطّ الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
الثاني: درجات الإيمان والتقوى: وقد قسّمها العلماء إلى مراتب: العامّة، والخاصّة، وخاصّة الخاصّة. وتقوى المجاهدين هي من قسم تقوى التضحية والفداء، فالشهداء قدّموا كلّ ما يملكون مخلصين لله تعالى، واختاروا لأنفسهم هذا (اللباس) من ألبسة التقوى؛ تقوى الإحسان والبذل، ذاك النوع الذي يحبّه الله كما ذكرت الآية.
3- تحقيق المناعة والدفاع: لذلك يصف الإمام عليه السلام الجهاد أنّه: "درع الله الحصينة، وجنته الوثيقة". فلو تربّت أمّة مسلمة على روح الجهاد، وتسلّحت بهذا الدرع الإلهيّ، فلن تنثني أمام أعتى الضربات. الدرع، لباس من حلقات حديدية يرتديه المقاتل؛ كي يبطل مفعول الضربة على الجسم أو يُقلّل منه.
والجُنّة(8) أداة يقابل بها سلاح الآخر، فيحول دون وقوع الضربة من العدو. فالأوّل عمله المناعة، والثاني الدفاع.
وربما كان الإمام عليه السلام يشير في وصفه هذا إلى نوعين من الجهاد، جهاد وقائيّ يعطي للأمّة مناعة من آثار الضربات المهلكة، وجهاد دفاعيّ يقف في وجه الضربات.
ـــــــــ
1- دُيّت: مبني للمجهول من ديثه. أي: ذلّله.
2- القماءة: الصغارة والذل.
3- الأسداد: جمع سد؛ أي الحجب.
4- أديل الحقّ منه: أي صارت الدولة للحقّ بدله.
5- الخسف: الذلّ والمشقّة.
6- النصف: العدل.
7- نهج البلاغة: الخطبة 37.
8- الجنّة والمجن والمجنة: كلّ ما وقى من السلاح.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي