عباس الصادق
تميّز أغلب خطباء المنبر الحسينيّ في البحرين التّاريخيّة بالقراءة الصحيحة للآيات القرآنيّة والرّوايات والنّصوص الشعريّة والنّثريّة، بالإضافة إلى سلامة النّطق من خلال حرصهم على لفظ الحروف من مخارجها الصّحيحة، وكانت تلك المقوّمات نتاج العمليّة التعلميّة التّقليديّة في "الكتاتيب[1]"، ولم يكن يتسنّى لأيّ خطيب حينها أنْ يرتقي المنبر دون أن يلازم أحد الخطباء المتمرّسين ليتعلّم الخطابة على يديه عبر "المُسَارّة".
وتُعدّ المُسَارّة فارقة تميّز الموسيقى التّقليديّة، كما تُعدّ "منهجيّة تقليديّة متّبعة في نقل التّقاليد التّأويليّة من مُرشد إلى مُريد، وهي تندرج غالباً في أطوار ثلاثة متعاقبة؛ إلزاميّة التّتابع هي: التّشرب ثم التّأويل فالإبداع[2]". وبما أنّ المنبر واللطم الحسينيّ يُعدّان ضمن الموسيقى التّقليديّة الدّينيّة، فإنّ المُسَارّة كانت ملازمة لهما، حيث يَنقل المُرشد إلى المُريد تلك الملكات الثلاث، ليصبح المُريد من جهة قادراً على "الولوج إلى المعنى كمفتاح لفهم عميقٍ للموروث في جانبه الثابت، ولإعادة صياغته في جانبه الطّارئ، بما في ذلك إنتاج النّماذج الجديدة على نسق الموروث[3]"، ومن جهة أخرى يقوم المُرشد "الخطيب المتمرّس" بتقويم وتصويب ما يَرِد على لسان المُريد "الخطيب المتعلّم" من خطأ في جميع الحيثيّات الفنيّة (النحو، الحفظ، مخارج الحروف، الأطوار،..).
ومنذ أواخر القرن العشرين، ومع انتشار الكثير من الكتب المتضمّنة لمجالس حسينيّة كاملة، بالإضافة إلى انتشار وسائط التّسجيل الصّوتيّ لمجالس الخطباء المرموقين، وما تلاها من وسائل النّشر الإلكترونيّ، كل ذلك مهّد الطّريق لتلاشي تلك الطّريقة التّعلميّة التّقليديّة، فاتحاً الباب على مصراعيه أمام التّعلم الذّاتي؛ عبر الاستعانة بتلك الوسائل الحديثة، ليعتلي أعواد المنبر الحسينيّ من شاء، ولستُ هنا بصدد محاكمة الطّريقتين، وترجيح كفّة إحداهما على الأخرى، ولكن أضع يدي في هذا المقال على بعض إفرازات طريقة التّعلم الذّاتي، وربما كانت جرّاء هَجْرِ البعض إحرازَ المطالب والكفايات الأساسيّة للخطيب والرّادود الحسينيّ، بالإضافة إلى قرّاء الأدعية والزّيارات[4] والفخريّ[5] والتّصديقة[6]، وأقصد بالمطالب هنا أدوات الخطابة الحسينيّة الضروريّة؛ كالتّمكن من قواعد اللغة العربية، علم العروض، التجويد، التاريخ، وغيرها.
أعالج في هذا المقال المقتضب مشكلة محدّدة وهي نطق حرف "الهاء" غيناً، الأمر الذي قد يتسبّب للمستمع بفهم مغلوط، وربّما يُفسد ذائقته أو يعكّر صفو استماعه في أضعف الأحوال. وقد لاحظت ذلك خلال تسجيلي لعدد من اللطميّات والأناشيد؛ وعند قيامي بتفريغ عدد من التسجيلات لأغراض البحث العلميّ لعدد من الخطباء والرّواديد وقرّاء الأدعية والزيارات وغيرهم.
والواجب على ممتهني الأداء الصّوتيّ؛ الالتفات إلى أنّ صوت حرف الهاء ضعيف رخو مهموس، يجري معه الصّوت كجريانه مع النّفس ويخرج من أقصى الحلق، فإذا ما حُبس مجرى النّفس عند نطق الهاء تحولت غيناً أو غيرها؛ لا سيّما إذا كان الخطيب أو الرّادود أو القارئ يُنشد أو يُرنّم على طبقة صوتيّة مرتفعة لا تناسب طبيعة صوته، ولصوت الهاء صعوبة نسبيّة في النطق مقارنة بغيره من أصوات الحروف، وذلك لما يتطلبه خروج صوته من تباعد لوتري الصوت وخروجه مع الهواء، ولاشتراك حرف الهاء مع الغين في صفتي الرّخاوة "جريان الصّوت" والانفتاح؛ كان الأسهل على القرّاء أن يقلبوا الهاء طواعية للغين رغم كون الغين حرفاً مفخّماً مجهوراً، يخرج من أدنى الحلق، ما بين جذر اللسان (منبت اللسان) وما يقابله من اللهاة، وباقتراب جذر اللسان من اللهاة تخرج الغين[7].
كما يجب تعميق الهاء بشكل نسبيّ يُبعدها عن جرس الحاء، الذي يخرج من فوقها قليلاً أي من وسط الحلق، ويمتدّ انتشار موجة حرف الهاء في القصبة الهوائيّة على مستوى الصدر، مع غياب جوهرها جرّاء احتكاك الهواء بمجراه أثناء الخروج، ورغم صفتي الرّخاوة والهمس للهاء إلّا أنّ جريان صوتها لمدة أطول من الشديدة نسبيّا يعطيها وضوحاً، ولا يعني ضبط مخرج الهاء أن تخرج قويّة بما يفقدها صفة الهمس[8].
وبعد ما سبق من إيضاح، فإنّ فهم ذلك يساهم في تفادي مشكلة سلامة مخرج الهاء، ولعلّ المشكلة تزداد وتكون ملحوظة عندما يجاور الهاء حرف مفخّم؛ لتنتقل تلك الصفة للهاء، في حين أنّ مجرّد التركيز البسيط يمكن القارئ من المحافظة على صفة الرّقة في الهاء، لتخرج مرقّقة، وللتوضيح نورد هنا مجموعة من الأمثلة، مع الإشارة إلى "إنّ مشكلة قلب الهاء غيناً تكاد تكون غائبة في تلاوة القرآن الكريم وتجويده، إلا أن أساتذة التجويد كثيراً ما يحذّرون من قلب الهاء همزة، لاشتراكهما في المخرج وربما لعدم وجود نَفس لإكمال الآية أو للوصول لعلامة الوقف، والكثير ممن يعانون من مشاكل في النطق؛ ينطقون الهاء همزة[9]".
أولاً: الأدعية والزيارت
تكاد تكون كلمة "اللهمّ" مورد ابتلاء عند كثير من الخطباء والرواديد والمنشدين، لكثرة ورودها في الأدعية والمناجيات والزّيارات، وبسبب مجاورة الهاء حرف اللام المفخّمة، تنقلب الهاء غينًاء، عند كثير من القرّاء، فبدل أن تُنطق "اللهم" تنطق "اللغمّ"، دون أن يشكل ذلك للقارئ أيّ انتباه أو التفات.
وفي زيارة النّاحية نشير إلى هذا المقطع: "تطؤك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطّغاة ببواترها[10]" حيث يلفظها البعض "بحوافرغا..، ببواترغا"، ومع أنّ الهاء في كل من الكلمتين السابقتين جاورتا مرقّقين، إلّا أنّ بعض الخطباء والرّواديد والقرّاء ينطقها غينًا، ما يرجح "أنّ جلّ مشكلة قلب الهاء غينًا؛ هي مشكلة سماعيّة، أيّ أنّ ذلك الخطيب أو الرّادود تشبّع بالاستماع لمن يقلب الهاء غينًا، فاستقرّ ذلك في لاوعيه[11]"، وقد لاحظت وجود تلك المشكلة عند عدد من خطباء ورواديد المنبر الحسينيّ العراقيين.
ثانيا: المنبر الحسينيّ
في هالمحلة طاح أبو فاضل بلا جفوف وفي هالمحلة طاحت جفوفة القطيعة
يم شاطي الفرات يتنحّى ويوقف يصيح في هالمحلة ظل يقوم حسين ويطيح
ايده اعلى خاصرته وينتخي بذيك المذابيح في هالمحلة ذبحوا حسين ورضيعه
وهنا يتسبب نطق "غالمحلة" بشكل متكرّر حالة من النّفور لدى المستمع، لا سيّما من يمتلك ذائقة صوتيّة سليمة، ومعرفة ودراية بمخارج الحروف، وليس أولئك بالقلّة في مجتمعنا، وقد ينتبه المستمع ولا يلتبس عليه الفهم جرّاء فهمه للسيّاق، ولكن ربما لا يتسنّى ذلك للجميع، وقد لا يكون السّياق واضحاً في كل الكلمات.
ثالثاً: اللطم الحسينيّ
تزداد المشكلة وحالة النّفور حينما تكون القصيدة ذات حرف رويّ "هائيّ" كما في:
أدمى عرى الإسلام أبكى محتاوها
سمّا نقيعاً ظالمٌ لمّا سقاها
من مبلغٌ عنها رسول الله طه
عن طغمةٍ بالظلم جدّت في أذاها
ولك أن تتخيّل كيف تقلب "الهاء" "غيناً" في كل رويّ، وفي بعض اللطميّات ذات الأوزان المختلفة، استمعت لأحد الرواديد يقلب الهاء غيناً في " أهلاً، سهلاً"، وهنا يبرز دور مهندس الصّوت في توجيه المنشد أو الرّادود والقارئ أثناء التّسجيل، وإن كان غير قادرٍ على التوجيه عليه الاستعانة عبر مدير الإنتاج بمدقّق يمارس الرقابة على صحة القراءة وسلامة مخارج الحروف، وفي حالة الإنشاد المباشر على القارئ أن يحرص على إحراز تلك المقوّمات التي تعصمه من الزّلل في مخارج الحروف.
ختاماً لا يجنح هذا المقال إلى الدّعوة لنقل أحكام تجويد القرآن الكريم؛ بأكملها إلى المنبر واللطم الحسيني والإنشاد الإسلاميّ، ولكنّه يدعو إلى مراعاة مقوّمات ما يوصل الرسالة المتوخّاة من النّص المرنّم أو إنشاد الشعر؛ من المنتج إلى المتلقي دون لبس أو اشتباه، ومن أهم تلك المقوّمات سلامة مخارج الحروف وتحقيقها، مع الالتفات إلى أنّ الكثير من أحكام التجويد لا تلائم النّصوص غير القرآنيّة كالإدغام والإقلاب وغيرها.
جمع كتّاب، وهو باحة لتعليم النّاشئة القرآن الكريم وبعض المسائل الدّينيّة ومبادئ القراءة والكتابة والخطّ والحساب.[1]
أبومراد، النحو التوليديّ المقاميّ كأساس لإنماء التّقاليد الموسيقيّة المشرقيّة، 2012.[2]
أبومراد، غياب مفهوم الارتجال الموسيقيّ التّقليديّ عن أعمال مؤتمر1932 في دلالاته الثّقافيّة، 2008.[3]
يُقصد بها النصوص النّثريّة التي يرنّمها قرّاء متمرسّون في الطّائفة الشيعيّة عند زيارتهم لمراقد أهل البيت (ع)، أو ترنّم من بعد بصورة جماعيّة أو فرديّة. [4]
الفخريّ، أو السيرة وهو المرحلة الأولى في المنبر الحسينيّ، والفخريّ تلاوة غير مرنّمة لنصّ نثريّ يروي ما جرى على أهل البيت (ع) من مصائب، ويتم ترنيم ما يرد فيه من نصّ شعريّ.
التّصديقة هي تلاوة مرنّمة، يُستعاض بها عن الفخريّ، في مجالس الفاتحة، وهي مجالس المنبر الحسينيّ التي تقام عند موت عوام النّاس لدى الطائفة الشيعيّة. [6]
دار عمّار، عمان، 2003. راجع قدّوري، غانم، الدّراسات الصوتيّة عند علماء التّجويد،[7]
منشورات سال، الدّار البيضاء، 1991. راجع حليلي، عبد العزيز، الدّراسات اللسانيّات العامّة واللسانيّات العربيّة،[8]
لقاء مسجّل عبر whatsapp مع الأستاذ محمد الكزّاز "أحد أساتذة التجويد في القطيف"، 14 نوفمبر، 2019. [9]
.http://ar.wikishia.net/view/نص:زيارة_الناحية_المقدّسة[10]
لقاء مسجّل عبر whatsapp مع الأستاذ محمد الكزّاز "أحد أساتذة التجويد في القطيف"، 14 نوفمبر، 2019. [11]
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ