الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
إنّ اتّصاف الوجود المبارك لإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف بوصف الغائب إنّما هو بلحاظ حرمان المجتمع من إدراك وجوده المبارك، وعليه يلزم القول إنّ الناس هم الغائبون عن محضره؛ لأنّه وليّ الحقّ الشاهد على الخلق، فلا يمكن أن يكون شيءٌ غائباً عنه: لا نفسه ولا غيره.
أوّلاً: حتميّة تحقّق الوعد الإلهيّ
إنّ حكومة عباد الله الصالحين في الأرض وعد إلهيّ لن يتخلّف عن التحقّق: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾ النور: 55 وقد أكّد الوجود المبارك لصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف على تحقّق هذا الوعد الإلهيّ حال ولادته بتلاوته لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ القصص: 5 إلّا أن لتحقّق هذا الوعد الإلهيّ شروطاً تجعل من الصعب جدّاً، بل من المتعذّر تحقّقه بدونها.
نعم، لله تعالى القدرة التكوينيّة على إنجاز ما يشاء وفق الأمر التكوينيّ (كن): ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس: 82 كما أنّ فيضه لا يخضع لقيدٍ أو شرطٍ، فيمكن أن ينجز فيضه في آنٍ واحدٍ، فيوجد حكومة الصالحين في كلّ زمان. إلّا أنّ النقص الوجوديّ للموجودات التي تتلقّى وجودها من الفيض الإلهيّ كان سبباً في عجزهم عن تلقّي فيض الحقّ سبحانه بصورة دفعيّة، ومعه فالقصور من جهة القابل لا من جهة الفاعل.
وتحقّق هذا الوعد الإلهيّ في العقيدة الإماميّة الحقّة ممّا لا يعتريه الشكّ؛ إذ سيُنجز على يد آخر ذخيرة إلهيّة بعد غيبته الطويلة، كما أنّ الغيبة نفسها من شروط تحقّق هذا الوعد الذي لا يتخلّف. فقد ظهر في ضوء هذا البيان الجامع: أنّ هناك حكمةً بالغةً وتدبيراً حكيماً في قضيّة الغيبة؛ لتكون هي بنفسها الأرضيّة الممهّدة لظهور حكومة الصالحين في الأرض.
ثانياً: أسرار الغيبة
إنّ البحث حول الحكم الكامنة في الغيبة من البحوث العلميّة القيّمة، إلّا أنّه ينبغي أن لا نخرج عن غرضنا الأصليّ؛ إذ لا يذهب عليك أنّ الغرض من الحديث حول غيبة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يهدف بالذات إلى بيان سبب غيبة الوجود المبارك له، بل يهدف إلى تبيين وظيفة المؤمن المنتظر في زمن الغيبة؛ ليدرك ما إذا كان قد عمل وفق ما يؤدّي حقّ هذه الوظيفة أم لا.
أوّل سرّ: الخوف من القتل
ورد في بعض الأخبار أنّ الخوف من القتل من أسباب غيبة صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما أشار إليه مولانا الإمام الصادق عليه السلام حين قال: "قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: لا بدّ للغلام من غيبةٍ. فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل"(1).
- الخوف المحمود عقلاً: وليس المراد من الخوف المشار إليه الخوف المذموم الناشئ من ضعف النفس، بل المراد الخشية المحمودة عند العقلاء، فهو أمر حسن جدّاً، بل هو ضروريّ في غير واحد من الموارد.
إنّ الخوف الناشئ من حبّ الأنا، الباعث على الفرار من الخطر على حفظ الدين والمذهب، ضعف نفسانيّ وصفة مذمومة، كما أنّ عدم هدر الأنا من دون طائل أمرٌ محمودٌ عقلاً، بل واجبٌ كذلك؛ إذ المهمّ هو إراقة الشهيد دمه في موضع ذي ثمرٍ وذي أثر.
وأمّا من أراق دمه من دون أن يترتّب على دمه غايةٌ منشودةٌ فهو متهوّرٌ وليس شجاعاً؛ وذلك أنّ الشجاعة تقتضي أن يكون العمل متّزناً، فلا يقدم على القتال إلّا عند اقتضاء الأمر. ويشهد له ما صنعه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حين اتّقى الأخطار ضمن أحداث وأوضاع خاصّة، ونجا بنفسه وبأهله وأصحابه: "فنظرتُ فإذا ليس لي رافدٌ وذابٌّ ولا مساعدٌ إلّا أهل بيتي، فضننتُ بهم عن المنيّة، فأغضيتُ على القذى، وجرعتُ ريقي على الشجا، وصبرتُ من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار"(2).
وحين ينسلّ أمير المؤمنين عليه السلام بعيداً عن القتل يخاف الخوف من شجاعته؛ لأنّ هذه الرذيلة كسائر الرذائل لا موقع لها أن تسجّل حضوراً في ساحته المقدّسة، كيف وهو الذي نام في ليلة المبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً من دون سلاح أو وسيلة للدفاع عن النفس، مع علمه بأنّ أربعين رجلاً مسلّحاً كان على استعداد للهجوم على من ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنّ غرضهم الإجهاز على كلّ من يجدونه في الفراش بتصوّر أنّه النبيّ؟ فكيف لمن يُقدم على هذا الأمر أن يهاب الموت، وهو الذي قال لعثمان بن حنيف: "لو تظاهرت العرب على قتالي، لما ولّيتُ عنها"(3)؟
وكان عليّ عليه السلام إذا هجم على الأعداء، دبّ الذعر والهلع فيهم، فيتوارون عن الأنظار خلف الجبال، كما كانوا يتواصون باتّقاء شرّ سيفه، بل كان ذلك يدفعهم إلى القول إنّ ملك الموت حاضر في كلّ مكان يكون فيه عليّ عليه السلام . لقد كانت شجاعته مثلاً مأثوراً حتّى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة خيبر: "إنّه كرّار غير فرّار"، كما هدّد الكفّار بإرسال سيف عليّ عليه السلام عليهم(4).
حماية آخر ذخيرة إلهيّة
وعلى هذا الضوء، فالمراد من الخوف في هذه الروايات الخوف المحمود عقلاً، الذي هو عين الشجاعة، لا الشجاعة الناشئة من ضعف النفس. ومعه ينبغي القول إنّ خوف صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف من الظهور أمام الناس قبل تحقّق الوعد الإلهيّ يعود إلى الخوف من القتل، ما يعني: استشهاد آخر ذخيرة إلهيّة، وطمس دين الله الحقيقيّ، وانقطاع واسطة الفيض بين الخالق والمخلوق، فلن يصل المدد الإلهيّ المطلوب إلى الأفراد اللائقين، ولن يُرى نورُ الوعدِ الإلهيّ بحكومة الصالحين في الأرض...
وهذا الخوف لا ينشأ من ضعف الناس، بل مردّه إلى حسن التدبير وتقدير الشجاعة التي يجب العمل بمقتضاها، ولا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار كون ذلك الوجود المبارك آخر ذخيرة إلهيّة، ما يجعله متميّزاً عن سائر المعصومين عليهم السلام. والسرّ فيه، أنّه بلحاظ سائر الأئمّة عليهم السلام كان يقوم معصوم آخر على إثر استشهاد الإمام السابق عليه، فتُقام حجّة أخرى في الأرض، وأمّا الوجود المقدّس لإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف فهو آخر حجّة لله في الأرض وخاتم الأئمّة الكرام عليهم السلام.
ــــــــــــــــــــ
1- علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص285، باب علّة الغيبة.
2- نهج البلاغة، الخطبة 217.
3- نهج البلاغة، الكتاب 45.
4- راجع: مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج2، ص98-99؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج41، ص68.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة