مقالات

من دروس كربلاء الحسين عليه السّلام

الشيخ حسين المصطفى

 

عندما نريد أن نلتقي في ذكرى عاشوراء، علينا أن نعي كيف نحيي هذه الذكرى، وكيف نتعلم منها الدّروس التي تأخذ بنا في ارتباطنا الوثيق بخطّ أهل البيت (ع) في كل ما عاشوه وما ساروا عليه من فكر وخطّ وحركة، حتى نستطيع أن ندخلهم في عصرنا ولا نبقيهم في زوايا مغلقة.

وهذا ما نستوحيه من رواية عَنْ عَبْدِ السَّلامِ (أبي الصلت) الْهَرَوِيِّ، عَنِ الرِّضَا (ع) قَالَ: "رَحِمَ اللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا! قُلْتُ: كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ (ع):"يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا، وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا" (عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 307 الحديث 69؛ الوسائل: ج 27 ص 92 باب 8 من صفات القاضي حديث 52).

 

الدرس الأول:

عندما نقرأ سيرة الحسين (ع) في انطلاقته الكربلائية، فإننا نجد أنّ العنوان الذي كان يحكم مسيرته هو عنوان الإصلاح في أمة جده (ص).. الإصلاح الفكري في مواجهة الانحراف الفكري، والإصلاح السياسي في مواجهة الانحراف السياسي، والإصلاح الاجتماعي في مواجهة الانحراف الاجتماعي.

وهذا ما لخصه الإمام (ع) في كلمتي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) اللتين تمتدان إلى كل معروف أو منكر في خط الإسلام.

فالحسين (ع) لم يتخذ وضعاً استثنائياً، بل لقد كان الواقع الإسلامي يريد أن ينتفض على السلطة الحاكمة، ولكن لم يكن يوجد رجل يمثل البصيرة والنفاذ والعزيمة والقوة والشرعية والقيادة بمثل ما وجدت في الحسين (ع).

نعم، لقد كانت الأمة رافضة لحكم يزيد..

وهذا ما عبَّرت به الأمة عن نفسها في واقعة الحرة بعد ذلك، والضجيج السياسي الكوفي الرافض في أكثر من موقع... بل هذا ما عبَّرت رسائل الكوفة نفسها للحسين (ع): "فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت، فإنما تقدم على جند لك مجندة". (مقتل الحسين للمقرم: ص 145؛ البداية والنهاية: ج 8 ص 163).

بل هذا ما صرّح به الحسين (ع) حيث قال: "ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد تركني بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات له ذلك، هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون" (اللهوف في قتلى الطفوف: ص 122؛ الاحتجاج: ج 2 ص 24). فإنّ المؤمنين يرفضون من الحسين (ع) الاستسلام والانقياد ويطلبون منه الثبات والصمود وعدم الخضوع للإغراء والإرهاب.

ومن المهم هنا أن نؤكد أنّ الإمام الحسين (ع) لم يكن خياره في هذه المسيرة هو الحرب، بل كان مصلحاً محاوراً أراد أن يرسخ عزة الإسلام ويرجع للمسلمين كرامتهم.

ولذا وقف الإمام (ع) إزاء القوم، بعد أن استنفد طاقات الإقناع، ونظر إلى عمر بن سعد واقفاً في صناديد الكوفة، فقال (ع): "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرَّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلَّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم".

وفي نص آخر:

"الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَالْمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ وَمِنْهَا، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا، وَبِئْسَ الْعِبَادُ أَنْتُمْ، أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ أَنْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ، تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ، لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللهِ الْعَظِيمِ، فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ، إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (انظر: المناقب لابن شهر آشوب: ج 4 ص 100مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 357).

 

الدرس الثاني:

لقد كان الإمام الحسين (ع) بكل تضحياته كمثل النهر الذي يتدفق ويتفجر في كل مرحلة تشعرون فيها بأنّ للحرية قضية، وللعزة موقف، وللوحدة ضرورة في صفوفكم.

ولقد كان أصحاب الحسين (ع) من عشائر تتوزع على مجمل الجزيرة العربية، وكانوا -قبل أن يجتمعوا في كربلاء- متفرقين حتى في خطوطهم وانتماءاتهم السياسية.

ولكنّ صوت الحسين (ع) هو الذي دعاهم وربطهم بالحقيقة الواحدة وبالرسالة الواحدة، فتوحدوا بالحسين، واجتمعوا على اسمه حتى بعد أن جعلهم (ع) في حلٍّ من بيعته، لكنهم شعروا أنّ البيعة ليست الأمر الذي يربطهم به، إنّما هي الرسالة التي يؤمن بها من خلال قيادة الإمام الحسين (ع)، والخط الذي يتحركون فيه على أساس إمامته.

إنهم توحدوا بالحسين (ع)، وتوحدت مواقفهم ودماؤهم وكلماتهم، وتوحد الصدق في عهدهم، ولذلك كان الإمام (ع) عندما يستأذن أي شخص من أصحابه يتلو هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.

لقد قال لهم الإمـام (ع) بكل وضوح: "إنكم تقتلون غداً لا يفلت منكم رجل" (الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2 ص 363). فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك.

ولو أردنا أن نفتح آفاق هذا الخط الكربلائي لرأيناه مجسداً لخط الرسالات والنبوات، فأنت تقرأ في زيارة وارث: "اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نَبِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَليمِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عيسى رُوحِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّد حَبيبِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ أميرِ الْمُؤْمِنينَ...".

فهؤلاء الصفوة المباركة هو امتداد واحد لولاية الله على وجه الأرض، وخط حضاري واحد، ويحملون قضية واحدة، كما أنّ أعداءهم أمة واحدة، وخط حضاري واحد، وحرب واحدة. مما يعمّق الشعور بأنّ الأمة المسلمة على امتداد التاريخ منذ آدم (ع) إلى اليوم الحاضر أسرة واحدة، تلتف حول محور واحد، وتحارب جبهة واحدة.

 

وأنت عندما تتلو زيارة وارث سترى ثلاثة من مشاهد الولاء للحسين (ع):

1- التسليم: "اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ". والتسليم من أهم عناصر الولاء فهي حاضرة في المحبة والمودة والانسجام النفسي والطاعة والانقياد والتسليم.

2- الشهادة: وتأتي ضمن ثلاث فقرات:

أ - الشهادة للحسين بإقامة دعائم الدين.. "أشْهَدُ أنَّكَ قَدْ أقَمْتَ الصَّلاةَ وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأطَعْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ حَتّى أتاكَ الْيَقينُ".

يقول الحسين (ع) في مسيرته:

"ألا تَرَونَ إلَى الحَقِّ لا يُعمَلُ بِهِ، وإلَى الباطِلِ لا يُتَناهى عَنهُ! لِيَرغَبِ الـمُؤمِنُ في لِقاءِ رَبِّهِ مُحِقّاً، فَإِنّي لا أرى اـلمَوتَ إلّا سَعادَةً وَالحَياةَ مَعَ الظّالِمينَ إلّا بَرَماً" (اللهوف في قتلى الطفوف: 448؛ موسوعة الإمام الحسين ريشهري: ج 3 ص 375؛ مثير الأحزان: ص 44).

"أيُّهَا النّاسُ! إنَّ رَسولَ اللهِ قالَ: (مَن رَأى سُلطاناً جائِراً، مُستَحِلّاً لِحُرَم اللهِ، ناكِثاً لِعَهدِ اللهِ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسولِ اللهِ، يَعمَلُ في عِبادِ اللهِ بِالإِثمِ وَالعُدوانِ، فَلَم يُغَيِّر عَلَيهِ بِفِعلٍ ولا قَولٍ، كانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ أن يُدخِلَهُ مُدخَلَهُ)." ألا وإنَّ هؤُلاءِ قَد لَزِموا طاعَةَ الشَّيطانِ، وتَرَكوا طاعَةَ الرَّحمنِ، وأظهَرُوا الفَسادَ، وعَطَّلُوا الحُدودَ، وَاستَأثَروا بِالفَيءِ، وأحَلّوا حَرامَ اللهِ، وحَرَّموا حَلالَهُ، وأنا أحَقُّ مَن غَيَّرَ" (موسوعة الإمام الحسين ريشهري: ج 3 ص 377؛ تاريخ الطبري: ج 5 ص 403؛ الكامل في التاريخ: ج 2 ص 552 نحوه).

 ب - الشهادة بالطهر والنزاهة .. "أشْهَدُ أنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الأصْلابِ الشّامِخَةِ، وَالأرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجاهِلِيَّةُ بِأنْجاسِها، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِن مُدْلَهِمّاتِ ثِيابِها". وهو طهر موروث خلفاً عن سلف، وهو حصيلة اللقاح بين أصلاب شامخة رفيعة وأرحام مطهرة سلمت من أوساخ وأدناس الحضارات الجاهلية التي تناوبت على حياة الإنسان.

ج - الشهادة بموقع الحسين (ع) من حياة الأمة .. "وَأشْهَدُ أنَّكَ مِنْ دَعائِمِ الدّينِ، وَأرْكانِ الْمُؤْمِنينَ، وَأشْهَدُ أنَّكَ الأمامُ الْبَرُّ التَّقِيُّ الرَّضِيُّ الزَّكِيُّ الْهادِي الْمَهْدِىُّ وَأشْهَدُ أنَّ الأئِّمَةَ مِنْ وُلْدِكَ كَلِمَةُ التَّقْوى، وَأعْلامُ الْهُدى، وَالْعُروَةُ الْوُثْقى، وَالْحُجَّةُ عَلى أهْلِ الدُّنْيا"..

3 - الموقف: "إَنّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ وَبِإيابِكُمْ، مُوقِنٌ بِشَرايـِعِ ديني وَخَواتيمِ عَمَلي، وَقَلْبي لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ، وَأمْري لأمْرِكُمْ مُتَّبِـعٌ". والموقف هنا في (الإيمان والرأي) وفي (العمل). ليس أعز على الإنسان المؤمن من شرائع دينه الذي يدين به لله تعالى، وخواتيم عمله، الذي يختم بها حياته، حيث لا يمكن أن يتدارك منه شيئاً..

فإذا فاتنا طريق الشهود مع الحسين في كربلاء فإنّ قلوبنا التي عمرها الله بولائه وولاء أوليائه لا تنفك عن الاستجابة لدعوته، وبمقارعة الظالمين، وكسر شوكتهم وسلطانهم، وتعبيد الناس لله، وتحكيم شريعة الله تعالى وحدوده في حياة الإنسان، وانتزاع الإنسان من محور الطاغوت "لَبَّيْكَ داعِيَ اللهِ إنْ كانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَني عِنْدَ اسْتِغاثَتِكَ وَلِساني عِنْدَ اسْتِنْصارِكَ، فَقَد أجابَكَ قَلْبي وَسَمْعي وَبَصَرَي".

 

ما الذي نستفيد في هذا الموقف؟

لا شك أننا نحب الحسين (ع) ونحب أخاه، ونحب أمه، وأباه وجده، والأئمة المعصومين من ذريته، وننتظر حفيده لنكون من جنوده.. نحبه (ع) ونحبهم لأنّهم حملوا رسالة الله، ولأنّهم جاهدوا في سبيل الله، وأعطوا كل شيء يملكونه لله، من هنا فحبنا لهم ليس ذاتياً، وليس حب قرابة، أو حب صداقة، ولكنه حب يفرضه علينا انتماؤنا إلى الاتجاه الذي انطلق منه الحسين (ع).

لقد انطلق الحسين (ع) ليقول لنا:

1 - فكروا في قضايا أمتكم من خلال الإسلام الذي حمله جدي رسول الله (ص)، وأصلحوا ما فسد فيها. فكروا في قضايا الأمة حتى يكون كل واحد منكم مسلماً يحمل همّ الإسلام كله، وهمّ المسلمين كلهم.

2 - لا تعيشوا عصبية الذات أو العائلة أو الوطن أو عصبية القومية. عيشوا رسالية الإسلام في كل المساحات الإنسانية التي للإسلام فيها قضية، وللرسالة فيها خط.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد