تختلف المقاربات والعلاجات الاجتماعية عن الفردية فيما يرتبط بالسلوكيات من حيث النتائج نجاحًا وفشلًا؛ وذلك لأنّنا في المقاربات الاجتماعية نحتاج إلى مستوًى من الإجماع والتوافق بين عددٍ كبير من أصحاب القرار والنفوذ والتأثير، في حين أنّ المعالجة الفردية قد يكفي فيها معالجٌ واحد، وتكون النتيجة بحسب علمه وفهمه، دون أن تصطدم بتعقيد تحصيل الإجماع والتوافق. ولا يخفى أنّ تأمين هذا النوع من التوافق والاتفاق في قضايا المجتمع القيمية والثقافية يُعد أحد أصعب المهام وأكثرها تعقيدًا.
أما طريقة العلاج فيجب أن تكون في نهاية المطاف واحدة، تتنزل عبر مختلف أنواع البرامج والمشاريع، فيما لو أُريد لها النجاح والمؤثرية. وشرط الاجتماع على أمرٍ واحد قد يكون أولى من شرط اعتماد المنهجية العلمية أو الإصابة للواقع!
يمكن القول بأنّ الأزمة الكبرى التي تُعاني منها المجتمعات التي تمكنت من إقامة نظامٍ سياسي واحد، أو التي اجتمعت على قيادة واحدة، تكمن في كيفية توفير التوافق اللازم بين مختلف القطاعات المسؤولة عن معالجة مشاكلها الأخلاقية والمسلكية، وذلك نظرًا لتداخل مراكز القرار وتشعُّب قنوات الإجراء والتنفيذ.
في بيئتنا الإسلامية التي بدأت نشاطها الاجتماعي في القرن الأخير ـ وهو نشاط لم تعهده من قبل ولم تؤسس له في النظرية كما ينبغي ـ فإنّ عملية بناء الإجماع وتشكيل التوافق تُعد المشكلة الأولى بلا منازع.
نستطيع القول بأنّ هذه التجربة الحديثة قد تبنت إلى حدٍّ كبير مقاربة الاجتهاد الفقهي في كل قضاياها، حتى تلك التي لا يصح الاجتهاد فيها أو لا ينبغي. يوجد إفراط في توسعة دائرة بحث الاجتهاد إلى حد سراية أصول الفقه واقتحامها دوائر الاعتقادات والقيم، وهي دوائر خارجة عن تخصصها؛ علمًا بأنّ تلك الأصول الفقهية التي تُعد بمثابة مباني البحث وزاوية النظر إلى القضايا ليست سوى قواعد قائمة على العرف؛ في حين أنّ القضايا الاعتقادية والقيمية جاءت للتعامل مع العرف، فهي في مبانيها وأصولها مهيمنة على العرف لا تنطلق منه، وإن كان هناك اشتراك في بعض الأصول.
وإذا أضفنا مشكلة اغتراب الأبحاث الأصولية وهي في طور التشكُّل عن الأبعاد الاجتماعية والقضايا السياسية ولاحظنا النقص الفادح فيها في هذا المجال، فقد نلاحظ ما يشبه العجز في الاجتهاد حين نصل إلى هذه الدائرة الحساسة؛ الأمر الذي يفسر مدى استهجان كبار الفقهاء من الإمام الخميني حين أثبت ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، معتبرًا إياها من البديهيات.
هذا الاستهجان الذي وصل إلى حد رفض ما عدّه هذا الفقيه الكبير بديهيًّا، ينبع من هذه الغربة التاريخية المزمنة لأصول الفقه عن دائرة السياسة والمجتمع والتي وصلت إلى حد القطيعة. وهنا سندرك أيضًا أسباب صعوبة تحقيق أي نجاح لهذه المدرسة في مقاربة القضايا المسلكية العامة وتقديم علاجات وبرامج مناسبة لها.
ولا ينبغي أن نغفل عن عنصرٍ حساس في مثل هذه القضية يرجع إلى الفاصل الكبير بين العالم الذهني الذي يعيشه أي فقيه والواقع الـمُعاش، حيث يتصور مثل هذا الفقيه أنّ الإشكالات والمسائل المطروحة في كتب الفقه هي نفسها التي تعترك في الواقع؛ فينطلق من معالجة هذه الإشكالات من هذا التصور الذهني المسبق. فإذا كان الفقيه قد فرغ من قضايا العقيدة بعد دراسة كتاب الباب الحادي عشر للعلامة الحلي، واعتبر أنّه قد تعامل مع أهم مسائلها، فربما يتصور أنّ المجتمع قد فرغ منها أيضًا، وبالخصوص إذا كانت أدلتها كلها من بديهيات العقل أو النقل.
هذا الانفصال عن الواقع هو الذي يحمل البعض على البدء من النقطة الخطأ. وحين لا نبدأ من حيث ينبغي نكون قد حرقنا المراحل فلا يكون البناء على شيء. وقضية الحجاب هي من هذا القبيل. وسوف أبين مقصودي من ذلك في المقاطع التالية.
غالبًا ما يُقارب طلاب الفقه والشريعة قضية الحجاب من الزوايا والموضوعات التي تُطرح في الفقه، وهي التي تتعلق بشؤونه الجزئية مثل حدود الستر، وما الذي ينبغي أن تستره المرأة من جسدها، وما معنى أنّ المرأة كلها عورة. ففي بيئة هذا الطالب يكون الحجاب أمرًا مفروغًا منه؛ وكيف لا يكون كذلك وهو يعيش في بيئة شديدة الالتزام بالستر. ولهذا يتمركز النقاش والبحث هنا حول ما إذا كان على المرأة أن تستر وجهها ويديها أو لا؛ لأنّ ما يتعامل معه هذا الطالب الباحث هو هذا النوع من التحديات التي فرضتها بيئته. والمفروغ منه في هذه البيئة هو أنّ رجالها قد قاموا بما عليهم فيما يتعلق بالستر وزيادة. وإنّما يجب علينا جميعًا أن نعمل على الحفاظ على ستر المرأة وحجابها.
هذه بيئة تختلف تمامًا عن تلك التي بدأت تناقش ما إذا كان التعرّي للجنسين في بعض الأماكن العامة هو حقًّا من الحقوق التي تكفلت بها الحرية أو لا. ومثل هذه البيئات التي تعيد النقاش حول كل شيء إلى ما قبل نقطة الصفر بعيدة كل البعد عن بيئة ذلك الفقيه والباحث، وهي تطرح مفاهيم لم يتعرض لها في دراسته في أي كتاب، ولذلك فهو غير مستعد للتعامل معها انطلاقًا من مقاربته الخاصة. فيظهر كل ما يطرحه غريبًا ومستهجنًا وغير مقبول. وقد يضطر بعض هؤلاء الطلبة إلى اعتماد مقاربات التقاطية، مما يزيد الطين بلة بسبب الناتج الهجين الذي ينجم عن ذلك.
وسواء علمنا أو لا، فإنّ جميع الأحكام المرتبطة بالسلوك البشري تقوم على قاعدة المنظومة القيمية التي بدورها تقوم على رؤية كونية أو عقيدة ثابتة. ولا يمكن فهم المنظومة القيمية إلا بعد الانطلاق من رؤيتها الكونية؛ وفي غير هذه الحالة لا ندرك نظمها وانسجامها. كما إنّ طرح البرامج المسلكية للمجتمع أو الفرد لا يمكن أن ينجح بعيدًا عن المنظومة القيمية.
غالبًا ما يتصور طلاب الفقه والشريعة أنّ كلمتهم مسموعة لأنّهم يجيبون كل سائل عن الأحكام الشرعية؛ في حين أنّ سماع كلمتهم هذه ما كان ليتحقق لولا ما هو عليه السائلون من اعتقادات ورؤى مشتركة. ولهذا، يتصور أمثال هؤلاء أنّ المجتمع الذي سيخاطبونه هو من هذا القبيل. هناك فرقٌ كبير من ناحية التأثير والتأثُّر فيما إذا كان مخاطَبك سائلًا باحثًا مراجعًا، وبين أن يكون مجتمعًا وصل إلى حد السأم من رجال الدين. قسمٌ كبير من التأثر والسماع يرجع إلى ثبوت تلك المشتركات العقائدية والقيمية التي غفل عنها هذا العالِم المجيب، ولكن هل يمكن التغافل عنها في مجتمع يعاني من مشاكل سلوكية مزمنة؟
هذا ما يفسر الحدة والشدة والتهوُّر عند بعض الذين يقاربون مسألة الحجاب. فهذه المرة سيتعاملون مع شرائح وأشخاص لا يجمعها معهم تلك الثوابت العقائدية.. وبسبب هذه الحدة والغلظة التي يتم تبريرها أحيانًا في أحكام النهي عن المنكر، ينفتح المجال للمزيد من التطاول على الدائرة التي يعتبرها طلاب الفقه حكرًا عليهم، ويبدأ كل من يرى في نفسه فهمًا وبعض عقل، يرى أنّه يحق له الاجتهاد في الأحكام الجزئية.
فالنزعة نحو الاجتهاد الاعتباطي (أنا أحكّم عقلي مثل المرجع والفقيه) قد تنشأ من افتقاد التسامح والتواصل العلمي بشأن أحكام الدين، وتتعزز بسبب تعامل أهل العلوم الفقهية مع الآخر من منطلق وجوب محاربة أهل البدع والتشدد معهم حتى لو كان بالافتراء عليهم وتكفيرهم (حيث فسروا الإبهات في الرواية المشهورة بالبهتان).
الخسارة التي مُنيت بها مجتمعاتنا في ميدان العقيدة حصلت عند سيطرة الاستعمار على معظم منابرنا ومجالاتنا التعليمية، وكذلك بسبب الاستخفاف أو التقليل من أهمية هذا المجال الحيوي في الدين (مرة أخرى يقع اللوم على تلك المقاربة الاجتهادية الفقهية لمسائل العقيدة).
والخسارة في ميدان القيم الأخلاقية قد وقعت منذ بداية تشكل المجتمعات؛ فكيف إذا أُضيف إليها غلبة النظم المادية والشهوانية والشيطانية على مجتمعاتنا.
وقد كان يُفترض بنا الحفاظ على الميدان الأخير وهو ميدان الشريعة، وذلك عبر اعتماد مقاربات صحيحة لإصلاح السلوكيات العامة، تقوم على العلم وعلى مبدأ التواضع والاعتراف بالجهل وقلة الخبرة حين يصل الأمر إلى معالجة القضايا الاجتماعية العامة.
لكن الإصرار على الإحاطة والفرادة والتقليل من شأن الآخر إلى حد اعتباره كافرًا باطلًا منحرفًا، جعلنا ننصدم بعد مشاهدته وهو يصول ويجول على امتداد قرنين من الزمن في كل هذه المجالات، وقد أسس لها علومًا سماها إنسانية واجتماعية، عمت مشرق العالم ومغربه.
إذا رجعنا إلى المصداق الواقعي لهذا الجدل وهو قضية الحجاب، فينبغي أن نسجل أول شيء بأنّنا قد قاربنا هذه القضية وتعاملنا معها منذ البداية من موقع الانفعال تجاه ما يطرحه هذا الآخر. وكان هذا الانفعال في الواقع العامل الأول وراء الفشل الذي شاهدنا آثاره في تجربة دامت لأكثر من أربعين سنة في مجتمع النظام الإسلامي.
فقضية كقضية الحجاب هذه هي في الحقيقة من ابتكارات الغزو الثقافي لمجتمعاتنا، والذي رأى في واقع المرأة ثغرة كبيرة يمكن له أن ينفذ من خلالها لتدمير كل منظومتنا الفكرية والدينية.
وكان يُفترض بنا إن أردنا الخلاص من هذه الذهنية الانفعالية، أن نرد القضية من بوابة العلاقات العامة بين الذكور والإناث لنتوصل في النهاية إلى مناقشة الضوابط والحدود الفاصلة بينهم، بعد أن نفرغ من بحث الحكمة التي تقف وراء وجود هذا النوع من العلاقات البشرية وضرورتها.
ولا يمكن البدء بمناقشة قضية العلاقة بين الجنسين إلا بعد تثبيت القيم التي تؤسس لها. وهذه القيم لن تكون مفهومة إلا على ضوء الرؤية الكونية التي ترتبط بفلسفة وجود الجنسين على هذه الأرض وما بعدها. فعلى ضوء هذه النظرية نكتشف أنّ العلاقة بين الجنسين في أصلها إيجابية ممتعة وجذابة وضرورية ومهمة، وإن كان فيها محاذير ومخاطر كبيرة. وأنّ جزءًا من هذه المتعة يكمن في وجود مثل هذه المخاطر الكبيرة. أما وفق مقاربة مدرسة الفقه السائدة حيث نجد موضوع الحجاب في الصدارة، فإنّ العلاقة بين الجنسين خطرة وسلبية ومهولة ومرعبة ومدمرة، وإن كان فيها بعض المتعة والفائدة.
طرح قضية العلاقة بين الجنسين من زاوية الحجاب هو إعلان مُسبق عن تبنينا للجانب السلبي للقضية، وإن لم نقصد ذلك. ومقاربة القضية من هذه الزاوية سيجرنا إلى موقف الدفاع والانفعال حتمًا؛ ولطالما علمنا أنّ المدافع في باب الفكر والثقافة مهزوم حتى لو انتصر.
يفقد الكثيرون من طلاب العلوم الدينية مثل هذه الحكمة في التعامل مع واحدة من أخطر قضايا المجتمع، حين يفقدون القدرة على ملاحظة السياق التاريخي لها. هذا الانتقال الفجائي من أجواء الحوزة المغلقة إلى أجواء المجتمع الذي يتفاعل إلى حدٍّ كبير مع الثقافات الأخرى يشكل صدمة للكثيرين، لا يستطيعون استيعاب آثارها وتبعاتها، فيتحولون إلى أشخاص فاقدين للتوازن والحكمة. وحين يفقد أصحاب القرار مثل هذه الحكمة ستكون خسارتهم مؤكدة حتى لو كانوا أتباع الحق والحقيقة!
الشيخ مرتضى الباشا
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان