مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

بين غياب المثل وضياع النقد.. فقدنا القدرة على إعداد القادة

تتجاذب المسلمين ثقافتان متعارضتان أشد التعارض فيما يتعلق بطبيعة القيادة وخصائصها. طائفة ترى أن على الذي يقود المجتمع أن يكون معصومًا عن كل خطأ مهما كان صغيرًا، وأخرى ترى عدم البأس في أن يكون فاسقًا فاجرًا هاتكًا لحرمات الله طالما أن الله قدّر أن يكون قائدًا وإمامًا لهم وجعله خليفة لرسوله.

 

استغرقت الطائفة الأولى في الدفاع عن عقيدتها إلى الدرجة التي لم تعد ترى أي قائد سوى المعصوم، وظهر ذلك في المعاناة الشاقة التي بذلها الإمام الخميني وهو يسعى لإقناع علمائها بقضية ولاية وحكومة الفقيه غير المعصوم؛ بينما كادت الطائفة الثانية أن تنسى تمامًا قيمة الصفات والخصائص الإيجابية الكثيرة التي يمكن أن تتوفر في بعض الأشخاص ومدى تأثيرها على دينهم ومستقبلهم وحضارتهم.. وهكذا ضاعت المساحة الرمادية التي كان يُفترض أن يتشاركها الجميع للتعامل مع قضية القيادة بصورة عقلانية واقعية.

 

إنّ النزوع التبريري الشديد الذي أحاط بهذه العقائد والجدال الكلامي البعيد عن متطلبات الزمان أدى إلى الغفلة والتساهل بشأن أهم قضية في حياة المسلمين، فما بين متشددٍ لا يجد للواقع متسعًا في فكره وأطروحاته، ومتساهلٍ لم يعد مهتمًّا بما يجري حتى لو خسر المسلمون عزتهم وكرامتهم. وبذلك فقد الفكر الإسلامي الكثير من الكلام الذي كان يُفترض أن يُقال لإغناء هذه القضية الحساسة والارتقاء بها إلى مستويات التحدي.

 

إنّ الذين أصرّوا على العصمة كشرط للقيادة، لم يتصوروا أنّ الأرض قد تفقد حضور هذا الإمام المعصوم في بعض العصور، وأن على أهلها أن يتدبروا أمورهم في غيبته، وأن يسعوا لملء الفراغ بالأشخاص الجديرين وإن لم يكونوا معصومين، قبل أن يملأه ملوك وطواغيت مستبدون سيعيثون في الأرض فسادًا. وهكذا، كان التشدد في صفات العصمة للقائد سببًا لغياب البحث الجاد عمّن يتولى المسؤوليات الاجتماعية المختلفة في عصر الغيبة، فضاعت المسؤوليات الاجتماعية في لجة الهروب من هذا الواقع المرير.

 

وحين بدأت تجربة القيادة الشرعية التي آمن بها الموالون، كانت صفات العصمة وخصائص القائد المثالي ما زالت حاضرة بقوة في وعيهم ووجدانهم، فبدأت محاكمة هذا الولي وكل من معه انطلاقًا من تلك المبادئ المثالية العليا. وهكذا جرت عملية المقارنة بشخصٍ يمتلك من الكفاءات والمواصفات ما لا يمكن أن يتوفر لأحدٍ سواه ـ المقارنة بين الإنسان العادي والإنسان المعصوم ـ فبعث ذلك حالات من الإحباط والتشاؤم نظرًا لارتفاع سقف التوقعات. وما كان بالإمكان تغييب هذه المقارنة من الوجدان وقد تولدت من عقيدة راسخة، والإمام المعصوم بحسبها يُفترض أن يكون حاضرًا وناظرًا وشاهدًا ومستعدًا للظهور وتولي زمام الأمور في أي لحظة.. وربما نتج عن ذلك في بعض الحالات ما يشبه النقد الشرس الذي لا يقايض ولا يتنازل. ومن المتوقع في ظل هذا النقد العنيف أن يتجه أهل التجربة والقيادة إلى المقلب الآخر، ليبحثوا عن مبررات لتولية كل ناقص أو غير جدير. ومن هذه المبررات التي اشتهرت في أوساطنا القول بأن تعيين الأقل كفاءة يرجع إلى كونه الأكثر مقبولية أو أقدمية وإن وُجد من هو أكفأ منه وأجدر.

 

وقد أدى هذا التجاذب الشديد إلى إعادة النظر بعقيدة الإمامة والتأمل في مختلف جوانبها. فما من عقيدة تنزل إلى أرض الواقع والتجربة إلا وسيتبعها صياغة جديدة. وإنما يواجه المسلم مثل هذا التعارض حين لا يقدر على الجمع بين المثل والواقع، فيضطر إلى إعادة النظر في عقيدته للبحث عن مكامن الخلل فيها؛ الأمر الذي يُعد شيئًا مفيدًا ومنتجًا هنا، ومن شأنه أن يقرّب وجهات النظر بين المثاليين والواقعيين.

 

يرى المثاليون الأمور من منظور عالم المفاهيم الذي تشكّل من الأفكار والكتب، بينما يحكّم الواقعيون تجربتهم على المفاهيم وينظرون إلى العقائد من زاوية الواقع الذي صنعته تجربتهم.. وفي الوقت الذي يعجز المثاليون عن عرض البديل المتناسب مع الاستحقاقات وهم مبعدون عن المواقع، لا يرى الواقعيون أي إمكانية لتغيير الواقع لأنه لن يكون أفضل ممّا كان. وهكذا تُترك قضية القيادة للصُدف والتجارب أو للتسديد الإلهي بحسب تعبير البعض.

 

إنّ الحساسية المفرطة التي يعاني منها الواقعيون تجاه أي نقد من جهة، وعدم قدرة المثاليين على تأمين البدائل المناسبة من جهة أخرى، أفرغت الميادين من أي تجربة يمكن أن تتشكل على صعيد بناء الشخصيات القيادية التي تنسجم مع طبيعة التحديات والاستحقاقات. وبات على الواقعيين أن ينتظروا الأرض وتجاربها لتأمين حاجاتهم المزمنة، في حين يقف المثاليون مكتوفي الأيدي. والخاسر الأكبر هو هذه التجربة التي يُفترض أن ترتقي إلى آفاق العصمة في بحثها وتطلعاتها.

 

إن عجزنا عن تشكيل مؤسسات تترعرع فيها التجربة مع المثالية هو العامل الأول وراء هذا النقص الحاد في الطاقات القيادية المطلوبة. وإنّ عدم إيمان الواقعيين بإمكانية تحقيق هذا الهدف بالطرق التقليدية هو الذي كان ولا يزال المانع الأكبر من تبلور الكثير من أبعاد القيادة وخصائصها في ذهنية العاملين والمتصدين فضلًا عن غيرهم. لهذا أصبح النقد مع مرور الزمن فاقدًا لتأثيره ودوره البناء حتى لو كان منبعثًا من تلك الذهنية المثالية العقائدية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد