«النيّة» هي القصد، والإرادة المحرّكة للإنسان نحو الفعل. وليس الغرض من البحث عنه في المقام مجرّد إثبات صدور الفعل عنها؛ فإنّه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختياريّة، بل يرجع البحث هنا إلى ملاحظتها من جهة عللها ومعاليلها؛ أعني مناشئ صدورها من اقتضاء العقل والإيمان والغرائز وآثارها وكيفيّة تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة، وإلى أنواعها من خالصها ومشوبها، ومراتب خلوصها وشَوْبها، وإلى ترتّب الثواب والعقاب عليها وعدمه، وغير ذلك.
فعن المحقّق الطوسي قدس سره: النيّة: هي القصد إلى الفعل، وهي واسطة بين العلم والعمل؛ إذ ما لم يعلم الشيء لم يمكن قصده، وما لم يقصده لم يصدر عنه. ثمّ لـمّا كان غرض السالك العامل الوصول إلى مقصدٍ معيّنٍ - وهو اللَّه تعالى – لا بدّ من اشتماله على قصد التقرّب به. «1» انتهى.
فالأولى ذكر نصوص الباب:
قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» «2».
الشاكلة: الطبيعة، والسجيّة... وقد فسّرت في عدّةٍ من النصوص بالنيّة، ولعلّه لأنّ النيّة تنشأ عن الشاكلة، فمعنى الآية: أنّ مبنى عمل كلّ إنسانٍ وما يصدر منه فعله نيّتُه الصادرة عن شاكلته؛ فالنيّة مصدر الأعمال وملاكها، ولها دخل تامّ في حُسنها وقبحها وخيرها وشرّها، وهذا ممّا تشير إليه أخبار الباب وتوضحه وتفسّره.
فقد ورد أنّه «لا قول ولا عمل إلّا بنيّةٍ، ولا نيّة إلّا بإصابة السنّة» «3»؛ أي: لا صحّة ولا ثواب لأيّ قولٍ أو فعلٍ يصدر من المكلّف إلّا إذا قصد كونه للَّه، ورجاء وجهه ورضاه، أو طلب ثوابه، أو الخلاص من عقابه، وهذا معنى إصابة السنّة.
وأنّ «نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله». «4» النيّة هنا بمعنى الاعتقاد والإيمان، وهو خير من العمل الخارجي، كما أنّ الكفر القلبي شرّ من الفسق العملي. أو أنّ نيّة الخير من المؤمن إذا لم يقدر عليه خير من العمل إذا قدر؛ لأنّ النيّة خالصة للَّه، والعمل ربّما كان رئاءً ونحوه، والكافر ينوي من الشرّ فوق ما قد يعمل به. أو أنّ النيّة لـمّا كانت أمراً قلبيّاً كثير الشَّوْب بالأغراض النفسيّة والدنيويّة وإخلاصها وتصفيتها وتمحيصها، بحيث لا يشوبها أيّ غرضٍ غير رضا اللَّه تعالى، أمرٌ صعب جدّاً، لا يناله إلّا الأوحدي من الناس، ومع ذلك لها عندهم مراتب كثيرة؛ فمع ملاحظة أنّ حسن العمل وكماله ينشآن من حسنها وكمالها، يعلم أنّ طبيعة النيّة وجوهرتها تغاير طبيعة العمل، وأنّها خير بالأصالة، والعمل خير بالتَّبَع، ومنه يعلم شرّيّة نيّة الكافر. وقيل في هذا المقام معانٍ أخر.
وأنّه «يُحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» «5». المراد بها العقائد الأصوليّة، فيحشرون مؤمنين أو كفّاراً أو منافقين كيفما كانت النيّات، أو يحشرون في اتّصافهم بجزاء الأعمال على وفق نيّاتهم في تلك الأعمال.
وأنّ «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم» «6».
وأنّ «حدّ العبادة حسن النيّة بالطاعة» «7».
و«أنّ العبادة للَّه رغبة في ثوابه عبادةُ التجّار وعبادة العبد المطمع، إن طمع عَمِل وإلّا لم يعمل. والعبادة رهبةً وخوفاً من النار عبادةُ العبيد، إن لم يخافوا لم يعملوا. والعبادة له تعالى لكونه أهلًا لها وشكراً لأياديه وإنعامه عبادةُ الأحرار» «8».
وقوله: «عبادة التجّار» قد يتخيّل بطلان العبادة إذا قصد بها طلب الجنّة أو الفرار من النار، لكنّه فاسد؛ فإنّ أكثر الناس يتعذّر منهم العبادة لمجرّد كونه تعالى أهلًا لها، أو لابتغاء ذات اللَّه ووجهه؛ فإنّهم لا يعرفون اللَّه تعالى إلّا بعنوان أنّه صاحب جنّةٍ ونارٍ ونحوه من الأوصاف، فيتذكّرون الجنّة ويعملون لطلبها، والنار فيعملون للفرار عنها، كما أنّه ليس غرضهم تأثير العمل تكويناً بلا واسطة الربّ تعالى، بل يعتقدون أنّ له الخيرة كلّها في بذل الثواب ودفع العقاب لكونهما بيده، وهذا المقدار كافٍ في الصّحة وترتّب الأثر؛ كيف، وقد قال الحكيم تعالى: «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا» «9» وقال: «وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا» «10». وهذا أمر وترغيب في العبادة للخوف والرهبة والطمع والرغبة. وقد كتب عليّ عليه السلام: «هذا ما أوصى به وقضى به عبد اللَّه عليّ ابتغاءَ وجه اللَّه، ليولجني به الجنّة، ويصرفني به عن النار» «11». ولو لم يكن ذلك صحيحاً لما فعله عليّ عليه السلام ولما لقّن به غيره.
و«أنّ العبد المؤمن الفقير إذا قال: يا ربّ، ارزقني حتّى أفعل كذا من وجوه البرِّ، وعلم اللَّه ذلك منه بصدق نيّته، كتب اللَّه له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله؛ فإنّ اللَّه واسع كريم» «12».
وأنّه «يحتجّ عبد يوم القيامة ويقول: يا ربّ، لم أزل أوسّع على خلقك لكي تنشر عليَّ هذا اليوم رحمتك، فيقول الربّ: صدق عبدي؛ أدخلوه الجنّة» «13».
وأنّ عليّاً عليه السلام كتب في صحيفة بعض صدقاته: «هذا ما أمر به عليّ في ماله ابتغاء وجه اللَّه، ليولجني به الجنّة، ويعطيني الأمنة» «14».
وأنّ «من صام يوماً تطوّعاً ابتغاء ثواب اللَّه، وجبت له المغفرة» «15».
وأنّ «من عمل الخير لثواب الدنيا، أعطاه اللَّه ثوابه في الدنيا، وكان له في الآخرة النار؛ لقوله تعالى: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْملَهُمْ فِيهَا» «16»». «17».
و«أنّ المؤمن إذا أقف يوم القيامة بين يدي اللَّه يقول للملائكة: هَلمّوا الصحف التي فيها أعماله التي لم يعملها، فيقرأها ويقول: وعزّتك، إنّي لم أعمل منها شيئاً؟! فيقول: صدقت، نَوَيْتَها، فكتبناها لك، ثمّ يُثاب عليها» «18».
وأنّه «ما ضعف بدن عبدٍ عمّا قويت عليه النيّة» «19».
وأنّ «من حَسُنتْ نيّته، زاد اللَّه في رزقه» «20».
وأنّ «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم» «21».
وأنّ «عون اللَّه على العباد على قدر نيّاتهم؛ فمن صحّت نيّته، تمّ عونُ اللَّه له؛ ومن قصرت نيّته، قصر عونُ اللَّه» «22».
وأنّه «لكلّ امرئٍ ما نَوى؛ فمن كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله، فهجرته إلى اللَّه ورسوله؛ ومن كانت هجرته إلى الدنيا، فهجرته إلى ما هاجر إليه» «23».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 185 .
(2). الإسراء ( 17 ) : 84 .
(3). الكافي ، ج 1 ، ص 70 ، ح 9 ؛ تحف العقول ، ص 43 ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
(4). الكافي ، ج 2 ، ص 84 ، ح 2 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 406 ، ح 67 و 68 عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
(5) . الكافي ، ج 5 ، ص 20 ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 135 ، ح 228 عن الإمام الصادق عليه السلام مع اختلاف يسير في اللفظ.
(6) . مصباح الشريعة ، ص 53 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 210 ، ح 32 .
(7) . الكافي ، ج 2 ، ص 85 ، ح 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 199 ، ح 3 مع اختلاف يسير في اللفظ ملخّصاً .
(8) . راجع : الكافي ، ج 2 ، ص 84 ، ح 5 ؛ تحف العقول ، ص 246 ؛ غرر الحكم ، ص 198 ، ح 3934 .
(9) . الأعراف ( 7 ) : 56 .
(10) . الأنبياء ( 21 ) : 90 .
(11) . الكافي ، ج 7 ، ص 49 ، ح 7 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 9 ، ص 146 ، ح 55 ؛ وسائل الشيعة ، ج 19 ، ص 200 ، ح 24426 .
(12) . الكافي ، ج 2 ، ص 85 ، ح 3 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 261 ، ح 320 ؛ التمحيص ، ص 47 ، ح 72 عن الإمام الصادق عليه السلام مع اختلاف في اللفظ .
(13) . الكافي ، ج 4 ، ص 40 ، ح 8 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 203 ، ح 6 عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مع اختلاف في اللفظ .
(14) . نهج البلاغة ، ج 3 ، ص 22 ، الوصيّة 24 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 203 ، ح 8 ، مع اختلاف في اللفظ .
(15) . الأمالي للصدوق ، ص 645 ، ح 874 ؛ روضة الواعظين ، ص 350 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 203 ، ح 9 ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
(16) . هود ( 11 ) : 15 .
(17) . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 324 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 204 ، ح 10 .
(18) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 26 ، عن الإمام الرضا عليه السلام مع اختلاف يسير في اللفظ .
(19) . من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 400 ، ح 5859 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 408 ، ح 526 عن الإمام الصادق عليه السلام .
(20) . المحاسن ، ج 1 ، ص 261 ، ح 318 ، عن الإمام الصادق عليه السلام ؛ كنز الفوائد للكراجكي ، ص 291 عن الإمام علي عليه السلام وفيه مع اختلاف يسير في اللفظ .
(21) . مصباح الشريعة ، ص 53 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 210 ، ح 32 .
(22) . الأمالي للمفيد ، ص 66 ، ح 11 عن الإمام الصادق عليه السلام مع اختلاف يسير في اللفظ .
(23) . عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 81 ، ح 3 ؛ دعائم الإسلام ، ج 1 ، ص 4 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 211 ، ح 35 ملخّصاً .
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها