مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة

جاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام : (من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همّته اشتدّت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شرَّ يوميه فمحروم) (أمالي الصدوق: 477 - 478؛ ومعاني الأخبار: 198؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 4 : 382؛ وروضة الواعظين : 444)، وفي خبرٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخرُ يوميه شرَّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خيرٌ له من الحياة) (أمالي الصدوق: 766)، وفي خبر هشام بن سالم - وهو خبر صحيح السند عند مشهور العلماء - عن الإمام الصادق أنّه قال: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة) (معاني الأخبار: 342).

 

هذا الحديث الوارد بعدّة أسانيد عند الإماميّة - والذي لم يرد عند أهل السنّة إلا في رواية تُنقل عن منام رؤي فيه رسول الله فقال هذا الكلام - هذا الحديث يؤسّس مبدأ هامّاً من مبادى العمل الصالح في الحياة، فهو يقول بأنّ حياة الإنسان الصالح هي حياة متنامية دوماً، وهي في تقدّمٍ وتطوّر وتنمية متواصلة لا تقف ولا تهدأ، إنّ الإنسان الصالح هو الإنسان الذي إذا اشتغل بعلم كان همّه أن يتقدّم في المعرفة كلّ يوم ويزداد علماً كلّ يوم، ولا يقف مغترّاً بما علم ولو ليوم واحد. وإذا اشتغل في تجارة كان لله فيها رضا فإنّه يعمل باستمرار ويتقدّم ويطوّر أدواته باستمرار، ولا يقف عند حدّ، وكذلك إذا كان يعمل في مجالٍ خدميّ للناس أو في وظيفة حكوميّة فهو لا يعيش (الروتين) القاتل ويتوقّف في تطوّره ونموّه حتى لتجده هو نفسه الذي كان قبل ثلاثين عاماً.

 

الإنسان الصالح هو الإنسان الذي يبحث دوماً عن التقدّم والتطوّر والتنمية والازدياد المتواصل في حياته، في علمه وعمله، وكذلك في علاقته مع الله، فلا تتحوّل العبادات عنده إلى مجرّد حركات جسديّة ميتة لا تنبض بالحياة، ولا تقدّم له شيئاً إضافيّاً. إنّ المؤمن (مهووسٌ) بالإضافة النوعيّة المتواصلة لحياته، مشغولٌ في أن يكتشف الجديد أو يصنع الجديد.. إنّ هذا المبدأ من أعظم مبادئ التنمية المتواصلة في حياة الإنسان / الفرد، قال سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114).

 

ولو طبّقنا هذا المبدأ على المستوى المجتمعي والجماعي فسنجد شيئاً مذهلًا، فالمجتمع الصالح هو المجتمع الذي لا يتوقّف مغترّاً بما حقّق وأنجز، أو بما تفوّق به على الآخرين وسائر المجتمعات، بل هو في عمل دائمٍ دائبٍ لا يقف ولا ينقطع، يهدف من خلال ذلك إلى المزيد من التعالي والتقدّم. والمجتمع الإسلامي هو المجتمع الباحث عن التقدّم العلمي دوماً، والتقدّم السلوكي والأخلاقي والروحي على الدوام، لا يقف ولا يعرف الهدوء أبداً، وبذلك يصبح مجتمعاً أرقى وأكثر تقدّماً من سائر المجتمعات دوماً لو أحسن تطبيق مثل هذه المبادئ السامية.

 

ولا يلغي هذا المبدأ أنّ للنفس إقبالًا وإدباراً، فهذا شيء طبيعي، والراحة للجسم الرياضيّ حاجة للتقدّم أيضاً، والراحة للعقل المتفكّر حاجة للنموّ كذلك، فلا ضير في مثل هذا، وليس نظر الحديث إلى مسألة اليوم بعينها، إنّما نظره إلى الخطّة الاستراتيجيّة التي يحيا الإنسان في ظلّها أو يعيش المجتمع حياته من خلالها، فالمهم أن نكون أمّةً وجماعات وأفراداً نعيش دوماً هاجس الجديد والتقدّم والتطوّر بما فيه النفع، لا بما فيه الضرر أو التراجع.

 

إنّ حركة الحياة متواصلة دوماً، فإذا لم تتقدّم أنت فقد يتقدّم الآخرون، وإذا تقدّم الآخرون وأنت في مكانك فهذا يعني أنّك تتراجع، ولهذا لاحظوا كيف أنّ الحديث قال بأنّ من لم يرَ الزيادةَ في حياته فهو يقترب من النقصان. نعم لأنّ الوقوف ضمورٌ في الطاقات، وهلاكٌ في الإمكانات، وتعطيلٌ لأسباب القوّة، وتقدّمٌ للآخرين علينا، فهو تراجع وتقهقر، بل هو - كما قالت الرواية أعلاه - موتٌ ونهاية، ولهذا تقدّم الغرب وتراجعنا في غير مجالٍ من المجالات؛ لأنّنا توقّفنا وسلّمنا راية العلم له في لحظات تاريخيّة محزنة.

 

فبعد أن كان عندنا ابن البيطار عالمُ زمانه في علم الصيدلة والأدوية والعقاقير، وكان عندنا الحسن بن الهيثم عالم زمانه في البصريات، وكان عندنا الرماح عالم عصره في الصناعات العسكريّة والأسلحة والآلات الحربيّة، وكان عندنا ابن الرزاز الجزري عالم الميكانيك وصانع الآلة المشهور، وكان عندنا الإدريسي عالم الجغرافيا النادر، وكان عندنا ابن سينا عالم الطب والفلسفة والمنطق والرياضيات، وكان عندنا الزهراوي عالم الأدوات الطبيّة الكبير، وكان عندنا الخوارزمي عالم الحساب والجبر، وغيرهم الكثير الكثير من كبار علماء العلوم المختلفة الذين جعلوا من هذه الأمّة سابقة الأمم، ها نحن اليوم نتراجع بسبب غياب مبادئ العمل الصالح وتُهاجر أدمغتُنا إلى بلاد الآخرين لتساهم في تقدّمها وتترك أوطانها للمجهول بسبب سوء إدارتنا وتعاملنا مع الأمو ، ووقوفنا على مناهج حياة ومعرفة وعمل قديمة، واستغراقنا في التصارع على موضوعات سطحيّة حوّلناها إلى حجر الزاوية في معرفتنا وتفكيرنا ونشاطنا، وصرفنا عليها أموالًا طائلة، واستهلكنا فيها طاقاتنا، وهدرنا بها أوقاتنا، بلا فائدة تذكر، فأصبحنا في مواقع كثيرة نعيش على هامش الآخرين، فننتظر ستيفن كوفي ليكتب فيما كتب فيه في إدارة الذات وغير ذلك، لكي نذهب خلف النصوص الدينية لنفتّش عمّا يردّ لنا اعتبارنا، وأنّ عندنا ما عنده، أو نذهب خلف نقده خوفاً من المدّ الناجح الذي حقّقه حتى غزانا في معاقلنا.

 

ولو صرفنا من البداية أوقاتنا وهمومنا نحو هذه الموضوعات وأمثالها، وأعملنا العقل فيها، وثوّرنا النصوص النافعة لحياتنا وقيمنا العليا، لرأينا أنّنا نملك الشيء الكثير، وربما لا يملك الآخرون بعض ما نملك، لكنّنا كنّا مصرّين على أن نغيب في غياهب أمور أخرى، أو نخاف من التجديد المؤدّي إلى تلاشيها.

 

لقد أمّنت بعض النصوص الدينية فضاءً تطوّر المسلمون في رحابه فيما سلف، فحثتهم على العلم ووضعت لهم مبادئ للتطوّر كهذا الحديث الذي بين أيدينا، فأنتجوا، لكنّنا اليوم قد نثوّر بعض النصوص المعطّلة للحياة، ونربك الساحة بها، وننسى أحياناً في المقابل الكثير من النصوص التي تشكّل مناخاً مساعداً على النهوض، والأمر كما قال الهرمنوطيقيين الجدد: الإنسان كالمغناطيس يجذب عليه كلّ ما يكون مسانخاً له، فإذا كان في الحضيض جذب إليه الأفكار والنصوص التي تتكيّف وتكيّفه مع الحضيض الذي يعيش فيه.. هذه هي الحقيقة.

 

إنّ تراجع الإنسان الفرد وتراجع الإنسان بما هو مجتمع يجعله ملعوناً منبوذاً مطروداً كما قالت الرواية أعلاه، وهذا هو واقع الأمور وحقيقة الحياة، فسباق الحياة لا يعرف هدوءاً وتوقّفك يعني تراجعك، أما تراجعك فهو نهاية الذلّ والسقوط والموت المحقَّق.

 

فلسفة العمل في هذا الحديث / المبدأ رائعة جدّاً، ودخول هذا الحديث في مشاعرنا وهمومنا وطموحاتنا وأحلام شبابنا وبرامجنا وإعلامنا وخطابنا الديني والاجتماعي مهمٌّ للغاية؛ لأنّ به مواجهة اليأس والفشل والضمور والموت إن شاء الله تعالى، وقد رأينا في الأمّة في عصرنا من أخذ بهذا الحديث وعمل عليه وقدّم ما عجز الكثيرون عن تقديمه من أفكار وسلوكيات وتجارب ناضجة ومفيدة وناجحة، رغم الظروف الصعبة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد