مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

نتائج السير والسلوك والحركة في صراط العبوديّة المطلقة

إن شاء الله، عندما نسير سوف نصل، وعندها سنرى أنّه يا للعجب، اتضح أنّ ما قالوه لنا صحيحٌ! وكلّ ما ذكروه من وصف الجنّة والحور العين و{جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ} (1) ـ‌ يا للعجب! ـ تبيّن أنّه صحيحٌ! ومثلما ذُكر لدينا في القرآن المجيد مِن أنّ أهل الجنّة يقولون لأهل النار: {قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّا} (2).

 

وكذلك يقول عزّ وجلّ: {وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُر مُّتَقَٰبِلِينَ} (3)، والغلّ هو ما يُطلق على القذارة، مثلًا: السُكّر عندما يُريدون إذابته ليصنعوا منه مُحلّي، يكون عليه في البداية مقدار من القذارة، فيجب عليهم أن يُضيفوا إليه مادّةً معيّنةً، وحينما يضيفوا تلك المادّة فإنّها تمتصّ جميع الشوائب والقذارات، فيصبح نظيفًا صافيًا طيّبًا طاهرًا، وكذلك ينزع الله من قلوب المؤمنين كلّ غلٍّ وظلمةٍ وكدورةٍ.

 

ثمّ قليلًا قليلًا يصل الإنسان إلى مرتبةٍ بحيث ينظر إلى جميع أهل العالم ـ حتّى الكفّار والأشقياء ـ نظرة محبّةٍ وعطفٍ، ويُشفق عليهم.. يُشفق على الكفّار، ويقول: يا الله اهدِ هذا الفرد! هو كافرٌ، ومع ذلك قم بهدايته. يبذل جهده من أجل هدايتهم، ويبذل جهده كي يُصبحوا مسلمين، فقد كان النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يُقاتلهم وكان يُقتَل من أمّته ويَقتُل مِنهم من أجل أن يُصبحوا مسلمين، كي يجدوا الطريق ويسيروا فيه. [ففي تلك المرتبة] يصبح لدى الإنسان نظرة رحمةٍ واسعةٍ تجاه جميع الخلائق، يتمنّى الخير لهم جميعاً، ويرجو أن يصل كلّ واحدٍ منهم حسب درجته ومرتبته، فهو يحبّ أن يطوي الجميع الصراط المستقيم، صراط الإنسانيّة وصراط الإسلام، وأن يصلوا إلى الله وإلى الغاية، وأن يمشوا الممشى الصحيح. فلم يعد هناك في تلك النفوس أيّ غلٍّ أو حسدٍ أو كِبرٍ أو تشويشٍ أو غشٍ أو قلقٍ.

 

حينما كنّا راقدين في المستشفى، كانوا يحضرون أحيانًا وجبة الغداء، ومعها المناديل الورقيّة. كنّا نقتطع قسمًا من تلك المناديل الورقيّة، ونضعها أمامنا، فهذه كانت سُفرتنا، نفرشها هناك ونضع الطعام ونتناول منه لقمةً، مرّةً حلّ وقت الطعام، فقلتُ: يا سيّد محسن (يعني نجله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني)، أحضر هذه السفرة! أقسِم بروحك إنّ رئيس أمريكا لا يمتلك مثلها، هذه السفرة التي اقتطعناها [من المناديل الورقيّة]، ووضعناها هنا من أجلنا، ثمّ وضعنا هذا الطعام فوقها، وقد جلستَ أنتَ هنا بكامل الصفاء والوفاء والحُسن، بهذا القلب الفرح الخالي من الغمّ والغصّة. أقسم بالله إنّ رؤساء جمهوريّات الدنيا لا يملكون مثلها! يعني: هم لا يستطيعون أن يفرشوا سفرةً دون أن يكونوا مشغولي البال.

 

إذن، إذا كان الإنسان عاقلًا، وأراد أن يمتلك الدنيا فلا عيب في ذلك، إلّا أنّ طريقهم خاطئ؛ لأنّهم وبسبب سعيهم نحو الدنيا، فإنّهم يسيرون نحو العذاب ونحو جهنّم، إنّهم يسيرون نحو الانزعاج وعدم الراحة.

 

إنّ الإنسان لا يمشي في طريقٍ إلّا من أجل أن يرتاح باله، وعندما يرى أنّ ذلك الطريق يكدّر صفوه، فإنّه سينام ليلته منزعجًا، وسيستيقظ منزعجًا؛ تجده يرسم ألف خطّةٍ ماكرةٍ لكي يهزم الطرف الآخر، فأيّ حياةٍ هذه؟! وأيّ دنيا هي؟! حتّى لو كان قصره من الذهب وقد رفعه إلى عنان السماء! فأيّهما أفضل للإنسان، أن يكون لديه كأس من الخشب تحتوي على ماءٍ باردٍ زلال، أم كأسٌ من الذهب تحتوي على دمٍّ يتقيّؤه؟ فرؤساء الجمهوريّات والسلاطين الذين يتقيّؤون الدماء ويموتون، ألم يتقيّؤوا تلك الدماء في الكؤوس الذهبيّة؟! والآن دعنا ننظر أيّهما أفضل: ذلك المسكين ذو الحظّ القليل الذي يعيش في القرية وهو مسلمٌ مؤمنٌ ويمتلك كأسًا خشبيّةً، يشرب وزوجته وأطفاله ماءً باردًا عذبًا، ويقول: الحمد للّه، أم ذاك [الرئيس]؟! أقسم بالله إنّ عبيد الدنيا مخطئون جميعًا! جميعًا!

 

وهذا القيد (أي: أهل الدنيا) وُضع في قبال حياة الأولياء؛ يعني: غير أهل الله من الصغير والكبير، ولعنة الله، تعني: الإبعاد، أي: فليحلّ عليهم الابتعاد عن الله، وليُصبحوا أسرى لهذه الحياة الدنيا، ولكي تزول هذه اللعنة؛ عليهم أن يرفعوا الحجاب والستار عن أنفسهم من خلال المجاهدة، وأن يسيروا جميعًا من خلال توفيقات الله، ويأتوا إلى هذا السبيل، ويقولوا: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُور شَكُورٌ * ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَب وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب} (4). إنّ الحمد مختصٌّ بذلك الإله الذي جعلنا في هذه الدار؛ دار المقامة، في مكان الاستقرار هذا، في هذا المقام المكين والمقام الأمين، وقد أعطانا ذلك من فضله، فما هو هذا المكان؟ هنا حيث لا نصَب، لا تعب، لا قلق ولا انزعاج فكر؛ هنا عالم الأمن، عالم الأمان، عالم السلام، هنا حيث توجد أسماء الله الحُسنى، ويقع اسم السلام.. السلام..{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَب وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب}. لا وجود هنا لأيّ شيءٍ من تلك المتاعب، هذا هو مقام الإنسان الذي سعى ليبلغه، وهذا المقام لمن طوى هذا الطريق في الدنيا.

 

إذا نام الإنسان في الدنيا، وقال: سوف أصل إلى المقامات في الآخرة، فقد أخطأ واشتبه. إنّ الدنيا هي عالم العَمل، فمثلًا لو أنّ طالبًا يدرس في كلّية الطبّ، فواجبه أن يجدّ ويجتهد هناك، ولكنّه لو قال: حينما أحصل على الدبلوم عندها سوف أجتهد وأدرس، فهذا خطأ، إذ عليه أن يجتهد ويدرس في حينه، وفي المقابل لو أنّه جدَّ واجتهد ودرس، فحتّى لو لم يمنحوه شهادة الدبلوم، إلّا أنّه مع ذلك يكون قد امتلك علمًا ورأس مالٍ، وأينما ذهب في الدنيا فهو يمتلك رأس مالٍ وعِلمًا. وأمّا إذا لم يكن قد درس، فلن ينفعه ألف دبلومٍ،‌ وقيمة شهادته قيمة الورق البالي، ويجب يكون مكانه الدكّان، يقف على رجليه ويبيع المثلّجات! إذ لا فائدة في ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). سورة البقرة (٢)، مقطعٌ من الآية ٢٥.

(2). سورة الأعراف (۷)، مقطع من الآية ٤٤.

(3). سورة الحِجر (۱٥)، الآية ٤۷.

(4). سورة فاطر (٣٥)، الآيتان ٣٤ و ٣٥.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد