كيف نؤمن بأنّ المهدي قد وُجد؟
هَبْ أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمرٍ طويل وإمامةٍ مبكّرة وغيبةٍ صامتة، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلًا. فكيف نؤمن فعلًا بوجود المهدي؟ وهل تكفي بضع رواياتٍ تُنقَل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم ممّا في هذا الافتراض من غرابةٍ وخروجٍ عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً، وليس مجرّد افتراضٍ توفّرت ظروف نفسيّة لتثبيته في نفوس عددٍ كبيرٍ من الناس ؟
تضافر الرّوايات على فكرة المهدي
والجواب: أنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً، وفي روايات أئمّة أهل البيت خصوصاً، وأكّدت في نصوصٍ كثيرةٍ بدرجةٍ لا يمكن أن يرقى إليها الشكّ. وقد أحصي أربعمائة حديثٍ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من طريق إخواننا أهل السنّة «1»، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستّة آلاف رواية «2»، وهذا رقم إحصائيّ كبير لا يتوفّر نظيره في كثيرٍ من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشكّ فيها مسلم عادةً.
الدليل على تجسيد الفكرة في الإمام الثاني عشر
وأمّا تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر (عليه الصلاة والسلام) فهذا ما توجد مبرّرات كافية وواضحة للاقتناع به. ويمكن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين: أحدهما إسلامي، والآخر علمي.
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر. وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهدي ليس مجرّد اسطورةٍ وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أمّا الدليل الإسلامي فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل البيت عليهم السلام والتي تدلّ على تعيين المهديّ وكونه من أهل البيت «3»، ومن ولد فاطمة «4» ، ومن ذرّية الحسين «5»، وأ نّه التاسع من ولد الحسين «6»، وأنّ الخلفاء اثنا عشر «7».
فإنّ هذه الروايات تحدِّد تلك الفكرة العامة وتشخّصها في الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت، وهي روايات بلغت درجةً كبيرةً من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفّظ الأئمّة عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته.
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك - إضافةً إلى ذلك - مزايا وقرائن تبرهن على صحّتها، فالحديث النبويّ الشريف عن الأئمّة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأ نّهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً - على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصى بعض المؤلّفين رواياته؛ فبلغت أكثر من مائتين وسبعين روايةً «8» مأخوذةً من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة، بما في ذلك: البخاري «9» ومسلم «10» والترمذي «11» وأبي داود «12» ومسند أحمد «13» ومستدرك الحاكم على الصحيحين «14».
ويلاحظ هنا: أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري، وفي ذلك مغزىً كبير؛ لأنّه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سُجِّل عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحقّق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمّة الاثني عشر فعلًا، وهذا يعني أنّه لا يوجد أيّ مجالٍ للشكّ في أن يكون نقل الحديث متأثّراً بالواقع الإماميّ الاثني عشري وانعكاساً له؛ لأنّ الأحاديث المزيّفة التي تنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - وهي انعكاسات أو تبريرات لواقعٍ متأخّرٍ زمنيّاً - لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكّل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادّي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التأريخي للأئمّة الاثني عشر، وضُبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري أمكننا أن نتأكّد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع، وإنّما هو تعبير عن حقيقةٍ ربّانيةٍ نطق بها مَن لا ينطق عن هوى «15»، فقال: «إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر». وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداء من الإمام عليّ وانتهاء بالمهدي؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبويّ الشريف.
وأمّا الدليل العلمي:
فهو يتكوّن من تجربةٍ عاشتها أمّة من الناس فترةً امتدّت سبعين سنةً تقريباً، وهي فترة الغَيبة الصغرى؛ ولتوضيح ذلك نمهِّد بإعطاء فكرةٍ موجزةٍ عن الغَيبة الصغرى.
إنّ الغَيبة الصغرى تُعبِّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام، فقد قُدِّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام، ويظلَّ بعيداً باسمه عن الأحداث وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحِظ أنّ هذه الغَيبة إذا جاءت مفاجئةً حقّقت صدمةً كبيرةً للقواعد الشعبية للإمامة في الأمّة الإسلامية؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادةً على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سبّبت هذه الغيبة المفاجئة الإحساس بفراغٍ دفعيّ هائلٍ قد يعصف بالكيان كلّه ويشتِّت شمله، فكان لابدّ من تمهيدٍ لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوّابه والثقات من أصحابه الذين يشكِّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الإمامي.
وقد شَغَلَ مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممّن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها، وهم كما يلي:
1 - عثمان بن سعيد العمري.
2 - محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
3 - أبو القاسم الحسين بن روح.
4 - أبو الحسن عليّ بن محمد السَمَري.
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهامّ النيابة بالترتيب المذكور، وكلّما مات أحدهم خلّفه الآخر الذي يليه بتعيينٍ من الإمام المهدي عليه السلام وكان النائب يتّصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهيةً أحياناً، وتحريريةً في كثيرٍ من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة.
ولاحظت أنّ كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي عليه السلام بخطّ واحدٍ وسليقةٍ واحدةٍ طيلة نيابة النوّاب الأربعة التي استمرّت حوالي سبعين عاماً، وكان السَمَري هو آخر النوّاب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميّز بنوّابٍ معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبَّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمّتها؛ لأنّها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحوّلت النيابة من أفرادٍ منصوصين إلى خطٍّ عام، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين؛ تبعاً لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبةٍ كبرى.
والآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدم لكي تدرك بوضوحٍ أنّ المهديّ حقيقة عاشتها أمّة من الناس، وعبَّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يَلْحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدّة تلاعباً في الكلام، أو تحايلًا في التصرّف، أو تهافتاً في النقل.
فهل تتصوّر - بربِّك - أنّ بإمكان أكذوبةٍ أن تعيش سبعين عاماً ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلّهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون على أساسها وكأ نّها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أيّ شيءٍ يثير الشكّ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصّة متميّزة تُتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعيةٍ ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنّهم يحسّونها ويعيشون معها؟
لقد قيل قديماً: إنّ حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ مِن المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكلّ هذه المدّة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثمّ تكسب ثقة جميع مَن حولها.
وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربةٍ علميةٍ لإثبات ما لها من واقعٍ موضوعي، والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته، وإعلانه العامّ عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يلاحظ كتاب «المهدي» للسيد العمّ الصدر قدس اللَّه روحه الزكية.
(2) يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف اللَّه الصافي.
(3) منتخب الأثر: 58 - 136
(4) منتخب الأثر: 191 - 194
(5) منتخب الأثر: 198 - 202
(6) منتخب الأثر: 204 – 207
(7) منتخب الأثر: 10 - 45
(8) الشيخ لطف اللَّه الصافي في منتخب الأثر: 10 - 45 ذكر فيه (271) حديثاً
(9) صحيح البخاري 4 : 75
(10) صحيح مسلم 2 : 191
(11) صحيح الترمذي 2 : 45
(12) صحيح أبي داود 2 : 207
(13) مسند أحمد 5 : 106
(14) المستدرك على الصحيحين 3 : 618
(15) انظر قوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى». النجم: 3 و 4
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
الشهيد مرتضى مطهري
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي النراقي
حيدر حب الله
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب