هذا الشهر هو شهر مبارك جدّاً، ورحمة الله تعالى واسعة فيه إلى درجة أنّ رسول الله قال: «فإن الشقي من حرم رضوان الله في هذا الشهر»؛ فالشقي هو الذي يُحرم من الاستفادة من مطر الرحمة هذا الذي ينزل على رؤوس الجميع، فيذهب ويجلس تحت السقف! أو يحمل مظلّة حتى لا يتبلّل بهذه الرحمة الإلهيّة! فالتعبير بلفظ الشقيّ ليس بالتعبير السهل أو البسيط، بل هو تعبير قاس؛ فالشقي هو الذي أغلق جميع أبواب الرحمة في وجهه.. على من نطلق لفظ شقي؟ نطلقها على يزيد وابن زياد وأمثالهم؛ فالشقي هو الذي بقي في هذا الشهر محروماً من رحمة الله.. عجيب جداً! ومع ذلك تعالوا لنر كيف يتعامل بعضهم مع هذا الصوم؟ ينظرون إليه بعنوان كونه واجباً، بل واجباً مشروطاً؛ فإن كنّا هنا، صمنا، وإن لم نكن، نقضيه لاحقاً! لا يا عزيزي، فإنّ فعلك هذا حرام!
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُم} لم يقل الله: إنّ الصوم "واجب" أو "لازم" أو "لا يجوز تركه"، بل يقول: "كتب عليكم"! و هذا التعبير غاية في التأكيد على الإلزام بالأمر، فيقال مثلاً: هذا الأمر مكتوب عليك، وهذا الأمر مختوم ومكتوب، الكتابة تعني أن المسألة صارت أمراً محتوماً، ومن يظهر أنّ الصوم واجب مطلق، وليس مشروطاً؛ بحيث يمكن للإنسان أن يترك الصوم.
الواجب المطلق هو الواجب الذي يجب على الإنسان أن يقدم عليه من تلقاء نفسه ويتحرّك إليه، كما هو حال الصلاة مثلاً، يعني: إذا جاء وقت صلاة الصبح، فيجب عليكم أن تصلّوا الصبح خلال هذا الوقت، وإذا رأيتم أنّكم إذا قمتم بعملٍ ما، فإنّ ذلك العمل سيسبّب فوات الصلاة، لتصبح قضاءً، فإنّ ذلك العمل المانع يصبح حرامًا. لا ينبغي أن يتصوّر الأمر بنحوٍ خاطئ بأنّ الصلاة قبل حلول الوقت ليست واجبةً بعدُ، فوقت الصلاة ليس من شروط الوجوب، بل من هو شرط وجوديّ، وهو من [العلل] المعدّة، فشرط وجود الواجب هو حصول طلوع الفجر، أو زوال الشمس، أو غياب الشمس، وهي ليست شرط وجوب.
ففي شرط الوجوب، يمكن للإنسان أن يقوم بعملٍ ليمنع حصول الشرط، [وبالتالي يسقط الواجب عنه من رأس]، وهذه مسألةٌ أخرى، مثلًا: صلاة الآيات التي تجب عند حصول الزلزال، فقد يعلن بعض الأفراد، وترصد الآلات أنّه ـ مثلًا ـ بعد ساعة من الآن سيحصل زلزال هنا في قم، عندها يمكن للأفراد أن يغادروا إلى طهران قبل حصول الزلزال، وعندما يذهبون إلى طهران، يسمعون أنّ هناك زلزالاً قد وقع في قم، فهؤلاء لا يجب عليهم أن يصلّوا صلاة الآيات، لماذا؟ لأنّ شرط الوجوب لم يتحقّق بالنسبة لهم بعد، فصلاة الآيات واجبة على من كان في قم، وأحسّ بالزلزال، لكنّه يمكن للإنسان أن يدفع عن نفسه تحقّق هذا الشرط [من خلال السفر]، يمكن له ذلك، أو مثلًا يعلنون أنّه سيحصل في هذا النصف من الكرة الأرضيّة خسوفًا للقمر، فيركب الإنسان الطائرة ويغادر إلى مكانٍ يكون القمر قد خرج من خسوفه فيه، ولم يعد هناك من خسوفٍ لتلك المنطقة، فهذا الإنسان لا يجب عليه أن يصلّي صلاة الآيات حينئذٍ؛ لأنّ شرط وجوبها لم يتحقّق بحقّه، لأنّه غادر قبل تحقّق الشرط.. فرّ من الخسوف، ولا مشكلة في ذلك، وليس في ذلك أيّ معصيةٍ أبدًا، فهو لم يُرد أن يصلّي صلاة الآيات هناك، فلا بأس في ذلك، والله لا يحاسبه، ولكن إذا قمت أنت قبل صلاة الظهر، وأخذت حقنةً أو شربت قرصًا، وهي تبعث على النوم عدّة ساعات، بحيث ستصبح صلاتك قضاءً، فهذا العمل يصبح عملًا محرّمًا، لماذا؟ لأنّ وجوب صلاة الظهر ليس وجوبًا مشروطًا، بحيث لو زالت الشمس تصبح واجبةً وإذا لم تزل فهي ليست واجبةً، بل صلاة الظهر واجبةٌ على كلّ حالٍ، غاية الأمر أنّ شرط وجودها هو الزوال، فيقولون: الآن عليك أن تصبر ولا تصلّي حتّى يتحقّق، لا تصلّ قبل نصف ساعة أو عشرين دقيقة أو عشر دقائق، بل عندما يحصل الزوال عندها يتحقّق شرط وجودها، يعني: هو مِن المقدّمات الوجوديّة، عندها يصبح وقت صلاة الظهر، والصيام له نفس الحكم.
.... والصيام له نفس الحكم! فالصيام واجبٌ مطلقٌ، نعم، من هذا الواجب المطلق استُثني شيئان طبقًا لنصّ الآية الشريفة: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} إلى أن يصل إلى قوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فهناك طائفتان استثنيتا من حكم الصيام، الأولى: من يكون مريضًا، والثانية: من يكون مسافرًا، وهنا بالنسبة للسفر، فإنّ الله استثناهم من باب المنّة عليهم، فمن يكون مسافرًا لا يجب عليه الصوم، ولا يشترط أن يكون سفره ضروريًّا جدًّا، لكن بالطبع ليس من الجيّد السفر في شهر رمضان، وهو مكروه؛ لأنّه يفوّت الصيام على الإنسان إلّا أن يكون السفر من النوع الذي يهتمّ به الإنسان، وقد منّ الله على المسافر واستثناه من الوجوب المطلق.
.... انظروا كم تختلف نظرة أهل المعرفة للأمور عن نظرة الآخرين؟! فالنبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «فَإِنَّ الشَّقِيَ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيم»، فالشقي والبائس هو الإنسان الذي يحرم نفسه من نعمة الصوم وبركاته، فهذا هو معنى الرواية، ومن جهة أخرى يأتي الحقير [مثلًا] ويقول: (اكسر صومك، فلا بأس بذلك، سافر واكسر صيامك، وكرّر ذلك حتّى ينتهي شهر رمضان.. سافر غدًا وبعد غدٍ إلى ثلاثين يومًا، ثمّ بعد ذلك اذهب واقضِها في وقتٍ آخر!) كم هو الاختلاف بين النظرتين للأمر؟! هل يمكن أن نقول: (إنّ هذا الحكم حكمٌ إلهي)؟! كيف والنبي يقول: من يأتي عليه شهر رمضان ولا يستفيد منه فهو شقيٌّ؟! هذه الرؤية للأمور هي رؤية أهل المعرفة، وهي نظرة النبيّ، وهي نظرة الهداة، نظرة من بإمكانهم أن يهدوا الإنسان ويوصلوه، هذه نظرتهم.
... إنّ الله كتب علينا الصيام لكي نفهم، لكي نعاني ونجوع، ليخرجك قليلًا من تعلّقاتك، ليزيل عنك بعض أوهامك، لكي يخرجك قليلًا من تخيّلاتك، ثمّ بعد أن ينتهي الصيام وينتهي شهر رمضان، سترى في نفسك: آه واعجباه! أيُّ حالٍ حصلت عليها؟! لقد اختلف وضعي عمّا قبل شهر رمضان!
ينبغي لنا أن نفهم أنّ النبيّ عندما يقول: «فَإِنَّ الشَّقِيَ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ» فماذا يريد أن يوصل لنا؟ ما هو الأمر المهم الذي يريد أن يقوله؟ يريد أن يقول: يا ابن آدم، يا من أتيتُ لأهديك: لقد جئت لآخذ بيدك، لقد أحضرت التشريع من أجلك، وأحضرتُ هذه الأحكام من أجلك، فاعلم أيّ أمرٍ مهمٍ وضعتُ في يدك! وأيّ كيمياء أهديتك! وأي جوهرٍ ثمينٍ! عليك أن تعرف قيمتها. لا تكوننّ شقيًّا! لا تكونّن ممّن يأتي عليه شهر رمضان ثمّ يمضي دون يحصل على النتيجة المقصودة والمطلوبة.
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ حسين الخشن
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ جعفر السبحاني
السيد عباس نور الدين
الفيض الكاشاني
الشيخ علي آل محسن
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
شهر رمضان فرصة لا تعوّض، وغنيمة لا تفوّت
(مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
فوائد معرفة إدارة الغضب في العمل
التفقه في الدعاء (9)
خديجة: الأنموذج الإنساني
الصدّيقة الكاملة
خديجة (عليها السلام) في كلمات بعض المؤرخين
أمّ المؤمنين خديجة: فخر الهاشميّات
البنى التحتية للثّورة الثقافيّة
درجات الصوم وآدابه