فجر الجمعة

الشيخ عبد الجليل البن سعد: من حقائق التربية

تحدث سماحة الشيخ عبد الجليل البن سعد في خطبة له بعنوان: (من حقائق التربية) حول التربية بأركانها الثلاثة (التربية كدور، المربي كما يرى نفسه، المتربي كما يراه مربيه) وذلك في  1446/03/23 هـ في جامع الإمام الحسين (ع) بالحليلة بالأحساء.

 

موضوع التربية من الموضوعات التي تتطلب خطبًا معززة وإرشادات مصوبة ونصائح بقدر كافٍ. هو موضوع حي لا يموت، ومهما توسعنا في الحديث عنه، ومهما عدنا إلى مناقشته بين فترة وأخرى، فإننا لا نبالغ في أمره. التربية هي المهمة التي لا يُعذَر فيها الإنسان بعدم أهليته، وكل من يريد أن يُعذَر فيها عليه أن لا يكون أبًا، وهذه نتيجة صعبة. حينما ترغب في الأبوة، فعليك أن تكون مؤهلًا للتربية. هكذا هو الحكم العادل في موضوع التربية.

لذلك ننطلق مع الإمام علي بن الحسين، سلام الله تعالى عليه، وهو يولي هذا الموضوع نظرته ومعرفته، ويعطينا من الدلائل ما هو واضح على طريق التربية. يقول: "إن حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا في خيره وشره". أي أنت، أيها الأب، فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. والإضافة هنا تعني أن الولد يقاسمك الخير والشر. ولذا قال "في عاجل الدنيا"، أي في الدنيا. أما في الآخرة، فلن يلحقك شيء من شره، ولكن في عاجل الدنيا شره وخيره مرتبط بك. أي أنك إذا فعل خيرًا، لن تنال منه إلا إذا برهنت على أنك الدليل على هذا الخير. وإذا فعل شرًا، فلن تبرأ منه إلا إذا برهنت على أنك أديت دورك ومسؤوليتك، أو أخلَيت مسؤوليتك من شره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب، والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه.

 

التربية، أيها السادة والسيدات، تقوم على ثلاثة أركان. نحن نتحدث عن ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: التربية كدور، ماذا تعني؟ كنشاط وكحقيقة، ماذا تعني؟

الاتجاه الثاني: المربي كما يرى نفسه، وكما يراه المتربي على يديه.

الاتجاه الثالث: المتربي كما يراه مربيه، كما يراه أبوه.

 

في الجهة الأولى، حينما ننظر إلى التربية، فأول حقيقة يجب أن نؤمن بها هي أن التربية كنشاط، وكدور، وكفعل مستمر، وكحالة هي أنك تربي لتكون سعيدًا، حتى وإن كلفتك التربية. هل هذا الأمر يحتاج إلى آية أو رواية؟ لا شك أن الآية والرواية حاضرة في مثل هذا الموقف وغيره، لكن هذا الأمر أبسط من أن يُستدل عليه بآية أو رواية. هذا الأمر شهد عليه الإنسان الذي تخلى عن التربية. حينما تخلى عن التربية واتبع الثقافات الغريبة، وخاصة في المجتمعات التي حولنا أو المختلفة عنا، اكتفى الناس بطفل أو اثنين. طافت السنوات بسرعة، كبر هذا الشاب وكبرت هذه الفتاة، وخرجوا عن طوع أهلهم. نحن نحتاج إلى السعادة، فماذا تصنع التربية؟

لكن بأي نحو من التربية؟ نحن نرى هذه المجتمعات لم تعد تستغني عن تدجين الحيوان في البيت. هذا دليل على ماذا؟ دليل على أن الإنسان إذا لم يُطعِم بيده لا يكون سعيدًا. إذا لم يكن لديه كائن حي يُدخله الحمام ويعتني بنظافته، لا يكون سعيدًا. إذا لم يكن لديه ذو روح يتحرك أمامه، حتى لو لم يكن ينطق أو يتكلم، لا يكون سعيدًا. لذا تركوا الأولاد ووضعوا كل غرائزهم في تربية الحيوان. هذا دليل على أن التربية سعادة، وأنها من متممات السعادة.

 

تلك التي لا تصبر على فضلات طفل صارت تصبر على فضلات حيوان، تنظفها وتكنسها. فالتربية، حينما نقول إنها من متممات السعادة، لا نحتاج إلى دليل سوى التأمل في حالة من انتكست فطرته وتخلى عن الإنجاب أو تخلى عن الأولاد. نرى كيف أنه يشهد شهادة واضحة على أن عدم وجود ساحة ومساحة للتربية يمثل نقصًا حادًا يعاني منه ولا يستطيع احتماله. وإذا قلنا إنها من متممات السعادة، فلأن السعادة لها بنى داخلية، منها البنية النفسية، وهي غريزة الانتماء.

تعلم أنه منك، أن تعلم أن الإنسان إذا لم يجد من ينتمي إليه يعيش ألـمًا وحسرة. لذلك ترى حالات كثيرة لمن لم يُرزَق بالولد، كيف يذهبون إلى الملاجئ يطلبون أطفالًا للتبني، وهم سعداء بما يطلبون. إذا أتيحت لهم الفرصة، ترى السعادة تبتسم في حياتهم وتغلف أجواء بيتهم. لماذا؟ لأن هذا النوع من الانتماء وهذه الحصة منه هي بنية نفسية للسعادة، واحدة من البنى للسعادة. وهي بنية نفسية في طبيعتها، وبجانبها هناك البنية العقلية والفكرية.

 

لماذا؟ لأن التربية تستدعي الإنسان على الدوام أن ينظم، وأن يخطط، وأن يدبر، أي أن هناك نشاطًا عقليًا. والذي لا يجد هذا المجال يشعر بآلاف المشاكل. واحدة من مشاكل الإنسان المعزول هي عدم ممارسته للتنظيم، ولا التخطيط، ولا التدبير. لا يوجد لديه شيء يحتاجه ليدبره، ولا شيء يعتمد على خططه، ولا شيء يتحرك وينظم أموره لأجله. لذلك يشعر بالفراغ القاتل. بل التنظيم والتخطيط والتدبير من علاجات الفراغ، ومن علاجات الأمراض التي يتحدثون عنها، وهذا على مستوى الأمهات أوضح منه على مستوى الآباء.

اسأل هذه البنت التي أصبح لديها اثنان أو ثلاثة، وشغلوا معظم وقتها. دعها تقارن بين وضعها عندما كانت في بيت أهلها مخدومة، وبين وضعها الآن عندما انشغلت بأبنائها. إنها سعيدة جدًا بالتدبير، والتخطيط، والتنظيم. تستشعر طعم السيادة، تشعر بالقوة، وتستشعر الاستقلالية. هذا إذا كانت طبيعية، أما إذا كان عقلها قد ذهب قبل الزواج، فهذا موضوع آخر لا نتحدث عنه.

 

هناك البنية الروحية. البنية الروحية في التربية، حينما تعلم أن الدورة التربوية هي عبادة. هذه عبادة. أنت في عبادة، لست منفصلًا عن العبادة، فأنت تتعبد الله عز وجل بهذه التربية. بمعنى أنك وجدت مشغلًا روحيًا، وإذا وجدت المشغل الروحي، فإن المشغل الربحي يولد السعادة، كما أن المشغل العقلي يولد السعادة، وكما أن المشغل النفسي يولد السعادة أيضًا. فهذه مشغلات السعادة موجودة في التربية.

الجهة الثانية: المربي، كما يراه المتربي وكما يرى نفسه، بل وكما يراه الشرع. بالنسبة للمتربي، سيكون المربي قريبًا منه وسيخفض لك جناح الذل من الرحمة إذا تعرف فيك على البذل. إذا وجدك باذلًا بلا حدود، فما معنى ذلك؟ البذل بلا حدود لا يعني بالمال فقط، بل يعني أنك ستعطيه من الوقت ما لا يعطيه غيرك. البذل بلا حدود يعني أن تظهر رضاك تجاهه أكثر مما يظهره غيرك. أنت باذل في الجهد، تتعب وتكد لأجله. أنت باذل في الألم، تحزن لما تراه فيه.

هنا تنبيه: انتبه أيها المربي، وانتبهي أيتها المربية. اعتمدوا على أنفسكم إذا غاب الأب، أو أخذ الله أمانته، أو جرى طلاق جائر، وأصبحتِ أنتِ الوحيدة في وجه أبنائك. ما هو دوركِ حينها؟ ماذا عليكِ أن تفعلي؟ يجب أن تتمركزي في هذا المركز وتتموضعي في موضع البذل وقتًا وجهدًا.

 

علينا أن ننتبه كمربين إلى فجوة تحدث أحيانًا في بعض البيوت، وهذه فجوة خطيرة جدًا. أن يجد الولد أو البنت بابًا آخر غيرك، يجد من يبذل له الوقت أكثر منك، أو يظهر له الرضا أكثر منك، أو يبذل الجهد أكثر منك، أو يشعر بالألم لأجله أكثر منك، فيلجأ إلى خارج البيت. حينها ستتعجب كيف يحب غيرك أكثر منك، وهذا عادة ما يحدث بسبب فجوة، وأهمها أن يكون المربي محترفًا في المحبة.

الأب والأم يجب أن يكونا محترفين في المحبة. المحبة احتراف، تعني أن الآباء يعيشون بيتهم في وضعية من الرتابة، لا تجديد فيها. كسر الرتابة هو احتراف في المحبة، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. يجب على الأب أو الأم إخفاء بعض الآلام، فلا داعي لإظهارها. الأهم من تجديد الوضعية وإخفاء الآلام هو التعاطي.

 

لا يزال الأبناء يشتكون من عدم تعاطي الأب، وأحيانًا يزداد الوضع سوءًا إذا كانت الأم أيضًا لا تتعاطى. التعاطي مهم جدًا، التعاطي المستمر والمفتوح مع الأبناء ضروري للغاية. هناك أشياء قد تفوت ويمكن تعويضها، لكن إذا كان باب التعاطي مغلقًا، فإن أي حالة سوء تحدث في البيت تكون متوقعة وليست غريبة.

كما يرى المربي نفسه، يجب أن يكون متحكمًا في المشاعر، ونتحدث بالتحديد عن الحلم والغضب. لا يمكن أن تكون حليمًا فقط ولا أن تغضب أبدًا، لا بد من توازن بين الحلم والغضب. ينبغي على المربي أن يوظف الغضب بشكل صحيح، لا أن يفرض الغضب عليه ويوظف الحلم بطريقة سليمة.

 

التوظيف الصحيح للغضب والحلم له معانٍ تربوية كبيرة. بعض الآباء، إذا قصر الابن في حقه الشخصي، لا يغضب، بل يحاول لفت نظره إلى تقصيره، لكن إذا قصر في حق أخته أو أساء إليها أو إلى أخيه، فقد يصل الغضب إلى مداه. الهدف هنا هو تنبيه الظالم والمظلوم؛ المظلوم يجب أن يدرك أنك تنتصر له وأنك لا تغفل عنه، والظالم سيعيش مقارنة تجعله يدرك الخطأ. لكن لو انتصرت بالغضب لنفسك، لزادت المسافة والفجوة بينك وبين ولدك.

أما المربي كما يراه الشرع، فيجب أن يكون مختارًا لنطفته. في عصرنا، الشباب يطلبون التواصل مع الفتاة قبل الزواج ويتحدثون عن الترتيبات المادية وكيف ستدرس أو تعمل، لكنهم لا يسألون عن استعدادها للتربية.

في الأمم السابقة، حتى تلك التي نظنها على جاهلية، كان لديهم وعي بهذا الجانب. كان هناك وعي بعدم وضع النطفة في كل وعاء إذا كان فيه شيء من الخلل أو عدم الاستقامة. ورد في الروايات الحديث عن العزل عن المرأة التي لا يرغب الرجل في إنجاب أولاد منها ولا يريدها مربية لأولاده، وكثرة الأسئلة التي كان الناس يوجهونها للأئمة حول هذا الموضوع تدل على اهتمامهم الشديد به.

 

لذا الفقهاء يحتاجون إلى ملاحظة هذه الأسئلة المتكررة لفهم الأهمية الاجتماعية لها، لأن تكرار الأسئلة يدل على أن القضية ليست عصرية بل كانت مألوفة في القديم.

أما المتربي كما يراه المربي فهي الوجهة الثالثة، ولكن يقطعنا عنها الوقت، وربما نعود إليها في فرصة أخرى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد