فجر الجمعة

الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)

تحدّث سماحة الشيخ عبدالكريم الحبيل في خطبة له بعنوان: (القلب السليم في القرآن الكريم) بجزئها الخامس عن القسم الثاني من خشوع القلب، وذلك 28 ربيع الثاني 1446 ه في مسجد الخضر عليه السلام في جزيرة تاروت - الربيعية.

 

أيها الإخوة الكرام والأخوات المؤمنات، ما زال حديثنا متواصلًا حول العنوان الذي عنوناه بـ "القلب السليم في القرآن". قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ".

تحدثنا في الجمعة الماضية عن الخشوع، وبيّنّا تعريفه لغةً واصطلاحًا، وقلنا إنه حالة في القلب من الخوف والمراقبة، والتذلل لعظمة الحق، والهيبة من جلال عظمته سبحانه. كما بيّنّا كيفية حصوله، وقلنا إنه يحصل من أمرين:

نتيجة إدراك عظمة وكبرياء وجبروت الحق سبحانه.

حبه جل جلاله.

فيجتمع في القلب أمران: حالة من الخوف والمحبة، فيخشع القلب، وتلين الجوارح. وختمنا البحث بصفات الخاشعين، وبيّنّا بعضًا من صفاتهم. قلنا إن من تلك الصفات:

التواضع.

الخوف.

سكون الجوارح.

الخضوع للحق سبحانه وتعالى، جل جلاله.

 

تتميمًا لموضوع خشوع القلب، سنتحدث في هذا الأسبوع عن صلاة الخاشعين، التي تُعتبر الغاية الكبرى من خشوع القلب. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ".

ذكرنا في الجمعة السابقة أن الله سبحانه وتعالى استحثَّنا حثًّا قويًّا في كتابه الكريم على خشوع القلوب، حيث قال تعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ".

أفضل وقت يُنتظر فيه خشوع القلب هو ساعة الصلاة، حين لقاء العبد بربه، وحين الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى جل جلاله. فإن لم يخشع القلب في هذه اللحظات، فمتى سيخشع؟

 

الصلاة: وقت النفحات الإلهية

أوقات الصلوات هي أفضل الأوقات، حيث تتفتح فيها أبواب السماء، وتتزلزل فيها ملائكة الرحمة. هذه اللحظات تتطلب حالة من الخشوع والخضوع الممزوج بالمحبة، والتي تؤدي إلى انكسار النفس هيبةً للمحبوب المتعالي في عظمته سبحانه وتعالى. ولهذا السبب، كما ذكرنا سابقًا، نجد أن أئمة الهدى (عليهم السلام)، حين يقومون بين يدي الله، ترتعد فرائصهم خوفًا وخشوعًا لله سبحانه وتعالى.

 

معرفة الحق كأساس للخشوع

ولا يخشع القلب حتى تترسخ فيه معرفة الحق سبحانه وتعالى. وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل: "وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة". أي: لا يصل القلب إلى درجة الخشوع حتى ينال العلم بالله والمعرفة الحقة به سبحانه وتعالى. القلب الخاشع يصبح وعاءً إلهيًا ربانيًا لمعرفة الله سبحانه وتعالى.

 

الصلاة والإيمان

الإيمان بحاجة إلى الصلاة والعبادة. وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): "ما أعلم شيئًا بعد المعرفة -أي معرفة الله سبحانه وتعالى- أفضل من هذه الصلاة". ويضيف الإمام قائلًا: "ألا ترى أن العبد الصالح عيسى ابن مريم (عليه السلام) قال: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا". الصلاة ليست مجرد طقوس، بل هي صلة مباشرة بين العبد وربه، ومصدر لتزكية النفس، وترسيخ الخشوع والمحبة لله جل جلاله. إذاً، ما من شيء أفضل بعد معرفة الله سبحانه وتعالى من عبادته، ومن الصلاة التي هي قربان كل تقي.

الصلاة هي القربان الذي يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في محكم كتابه: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي". الصلاة تملأ القلب بذكر الله سبحانه وتعالى، وتجعل الروح متعلقة بخالقها وربها جل وعلا. ولهذا، فإن الصلاة هي علاج الغفلة، لأن الصلاة تُقام لذكر الله سبحانه وتعالى، وقد قال عز وجل: "وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ".

 

الصلاة: طريق التخلص من الغفلة

الطريق للتخلص من الغفلة هو المحافظة على الصلوات، والصلاة التي تحقق بها التقرب الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى. هذه الصلاة هي اللحظة التي يناجي فيها العبد ربه تضرعًا وخيفة، يناجيه جهرًا أو إخباتًا، متذللًا ومتضرعًا إلى الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ".

 

الخشوع في الصلاة

للوصول إلى حالة الخشوع في الصلاة وتحقيق صلاة الخاشعين، يجب على الإنسان أن يحضر قلبه أثناء الصلاة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك".

 

إعطاء الصلاة مكانتها العظمى

لكي يكون الإنسان من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون، ينبغي أن يجعل الصلاة أهم شيء في حياته. يحتفل للصلاة ويحتفي بها. يجعلها من أولوياته الكبرى في هذه الحياة الدنيا. أهم شيء عندي هو الصلاة: الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى. ذكر الله عز وجل، إذ قال تعالى: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ".

إذا كانت الصلاة هي ذكر الله، فذكر الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون أكبر من كل شيء. لهذا، يجب أن نمنح الصلاة الأهمية العظمى في حياتنا اليومية ومسيرتنا الإيمانية. نحتفي بالصلاة ونحتفل بها، لأنها ذكر لله، وذكر الله ينبغي أن يكون هو الأكبر والأهم في حياتنا. وبالتالي، لا بد أن أحقق أثناء الصلاة الطهارة الظاهرية والطهارة الباطنية مع حضور القلب.

 

الطهارة الظاهرية

ظاهرًا، ينبغي لي أن أكون متطهرًا كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة، حيث قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ".

 

الطهارة الباطنية

كذلك، لا بد من تطهير الباطن من الأمراض القلبية والباطنية، مثل: الكبر. الحقد. الحسد. الظلم. اتباع الشهوات. حب الدنيا. إذا كان القلب – والعياذ بالله – مليئًا بهذه الأمراض، فلن يستطيع الخشوع أو الحضور في لقاء الله سبحانه وتعالى.

 

عوامل تساعد على حضور القلب والخشوع في الصلاة

من الأمور التي تعين على تحقيق حضور القلب والخشوع في الصلاة:

مراعاة أوقات الصلاة: أداء الصلاة في وقتها المحدد دون تأخير.

أماكن الصلاة: اختيار مكان نظيف وهادئ يساعد على التركيز.

كيفية أداء الصلاة: الالتزام بأركانها وشروطها بإتقان وخشوع.

 

حديث الإمام الصادق عليه السلام عن الخشوع

ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إذا استقبلت القبلة فانْسَ الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن الله، وعاين بسرك عظمة الله، واذكر وقوفك بين يديه يوم تُبلى كل نفسٍ ما أسلفت". "انْسَ الدنيا وما فيها": أي تجاوز كل مشاغل الحياة وأهوالها. "والخلق وما هم فيه": ليس فقط الناس، بل كل ما خلقه الله من إنسان وحيوان ونبات. "استفرغ قلبك عن كل شاغل": أفرغ قلبك من كل ما يشغلك عن الله. "وعاين بسرك عظمة الله": اجعل قلبك وروحك مشغوفين بعظمة الله وهيبته. "واذكر وقوفك بين يديه": استشعر يوم القيامة، حينما يُحاسب كل إنسان على ما قدّم وأخّر.

 

الاحتفاء بالصلاة لتحقيق حالة الخشوع

من الأمور التي تساعد على تحقيق حالة الخشوع في الصلاة مراعاة مقدماتها، ومن ذلك:

إسباغ الوضوء: أن يكون الوضوء متقنًا، ملتزمًا فيه بالواجبات ومستحب الآداب والسنن. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "والله يحب التوابين ويحب المتطهرين".

حسن الثياب: اختيار ملابس نظيفة ولائقة للصلاة.

التعطر والتطيب: لأنك ستقف بين يدي الله سبحانه وتعالى وتزاحم ملائكة السماء.

ترتيب البدن: كأن تسرح شعرك وتعتني بمظهرك؛ فهذه التفاصيل تعكس احترامك للصلاة.

 

الرواية عن احترام ملائكة الله

جاء في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله، عندما نزل المدينة مهاجرًا، استضافه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، الصحابي الجليل الذي انتقل إلى جوار ربه شهيدًا في سبيل الله. احترم أبو أيوب الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله احترامًا عظيمًا، فجعل النبي في الطابق العلوي بينما جلس هو وأهله في الطابق السفلي. كان يرى أن من غير اللائق أن يكون هو وعياله فوق رسول الله صلى الله عليه وآله.

 

حادثة الطعام

كان أبو أيوب الأنصاري يُرسل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، مما تنبته المدينة المنورة من البقوليات والخضروات مثل البصل والقثاء والبقل. لاحظ أبو أيوب أن النبي لا يأكل بعض هذه المأكولات، فظن أن السبب هو عدم اعتياد أهل مكة على هذه الأصناف لكونها لا تُزرع هناك. بدافع الاحتياط، سأل أبو أيوب النبي صلى الله عليه وآله:  "يا رسول الله، أحرامٌ هذه الأطعمة؟". فأجابه النبي صلى الله عليه وآله: "لا، ليست بحرام، ولكني أناجي من لا تناجون، وتنزل علي ملائكة السماء، وتتأذى من هذه الروائح".

 

الملائكة تتأذى من الروائح الكريهة

النبي صلى الله عليه وآله لم يكن يأكل الثوم والبصل قبيل الصلاة أو عند المناجاة، لأنه كان حريصًا على احترام الملائكة. ورد في رواية: "من أكل من هذه الشجرة – وفي رواية: من هذه البقلة الخبيثة – فلا يقرب مسجدنا هذا". هذا يشير إلى ضرورة مراعاة المصلين لغيرهم من المؤمنين والملائكة بعدم تناول الثوم أو أي طعام ذي رائحة قوية قبل حضور المسجد. فكما تتأذى الملائكة من الروائح الكريهة، يتأذى المؤمنون كذلك، مما يُضعف روحانية المكان ويُفقد البعض التركيز والخشوع.

 

تحقيق الخشوع في الصلاة من خلال المقدمات والأداب

من المقدمات المهمة لتحقيق الخشوع في الصلاة:

الطيب والزي الحسن: استخدام الطيب، حسن ترتيب البدن، اختيار اللباس النظيف، وتسريح الشعر والامتشاط. مراعاة الوقت والمكان: أداء الصلاة في وقتها وفي مكان مناسب، مثل المسجد، ومراعاة أجواء صلاة الجماعة.

 

الدعاء قبل الصلاة

من المستحب أن يبدأ المصلي بالدعاء قبل الدخول في الصلاة. ومن الأدعية المأثورة: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض... يا محسن قد أتاك المسيء، وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسيء، وأنت المحسن وأنا المسيء.  اللهم بحق محمد وآل محمد، صل على محمد وآل محمد،  اللهم صل على محمد وآل محمد، وتجاوز عن قبيح ما تعلم مني". يُذكر أن الدعاء ينتهي بعبارة: "وتجاوز عن قبيح ما تعلم مني"، ولا توجد عبارة "يا ذا الجلال والإكرام" ضمن الدعاء المأثور.

 

تحسين قراءة القرآن أثناء الصلاة

يجب على المصلي أن يُحسن قراءة القرآن وأن يقرأه بخشوع وحزن، كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إن القرآن نزل بالحزن، فاقرؤوه بالحزن". يُستحب تعلم القراءة الصحيحة لسورتي الحمد والإخلاص، مع ترتيلهما واستحضار معانيهما.

 

استحضار معاني أفعال الصلاة

الركوع: تذكر عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

السجود: استشعار القرب من الله سبحانه وتعالى، والتذلل لعظمته.

 

المعاني القلبية والباطنية للصلاة

يجب مراعاة حضور القلب أثناء الصلاة، واستحضار معاني التعظيم والهيبة من جلال الله.

الوقوف بين يدي الله يكون في حالة رجاء وخوف:

رجاء: لرحمة الله ونعيمه.

خوف: من عذاب الله ولقائه.

 قال تعالى: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ".

 

علامات الخاشعين

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "أما علامة الخاشع فأربعة: مراقبة الله في السر والعلانية. ركوب الجميل (سمات الصالحين ووقارهم). التفكر في يوم القيامة. المناجاة لله".

 

خشوع القلب والجوارح

قال الإمام علي (عليه السلام): "ليخشع لله سبحانه قلبك؛ فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه". ورد في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الشخص الذي يصلي ويعبث بلحيته: "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه".

 

الختام

لتحقيق الخشوع في الصلاة، يجب مراعاة:

الآداب والسنن الظاهرية والباطنية.

الحالة القلبية والروحية أثناء الصلاة.

الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى، كما ورد في قوله: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ". وأفضل وقت لتحقيق الخشوع وأعظم عبادة تُظهر هذا الخشوع هي الصلاة. قال الله تعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ". نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده المصلين الخاشعين، إنه سميع مجيب.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد