لقاءات

محمد المحميد: مجتمعاتنا ما زالت مستهلكة للثقافات والفكر مغتربة عن ذاتها


نسرين نجم ..

تعاني الحالة الفكرية والثقافية في واقعنا العربي من اضطرابات وتجاذبات كثيرة ما بين التشدد من جهة، والانفتاح بطريقة خاطئة من جهة أخرى، الأمر الذي انعكس سلبًا على هوية الشباب وجعلهم يتخبطون في حالة من الضياع، حول هذه المواضيع الفكرية والمعرفية كان لنا هذا الحوار مع الكاتب الصحفي وأستاذ الفلسفة والباحث في مجالات الفكر والدين والسياسة الأستاذ محمد حبيب المحميد:

* الغزو الثقافي والتنافس الفكري:
كُثر تحدثوا عن الحالة الفكرية المسيطرة في مجتمعاتنا منهم من كان متفائلًا بما وصلت إليه الحالة ومنهم العكس من ذلك، عن الحالة الفكرية وعن أي فكر في الوقت الحالي يغزونا يحدثنا الأستاذ محمد المحميد: "نعيش مرحلة ما بعد الغزو الثقافي للمجتمعات، حيث خرجت وسائل الإعلام من يد المؤسسات الإعلامية التابعة لجهات مؤدلجة، وصارت بيد الجماهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني، إلا أن الجهات ذاتها التي كانت تمتلك وسائل الإعلام تغلغلت في هذه المواقع سعيًا لتوجيه الرأي العام حسب المصالح السياسية، الفارق هنا أن الفرد منا أصبح أمام تنافس فكري يعرض فيه كلٌّ بضاعته، ويروج لها بين جماهير الأمم، نعم ما زال الفكر الغربي هو السائد في أوساطنا إلا أنه في نهايات هذه السيطرة، نتيجة لإنهيار العولمة عمليًّا، وهي نظريته الكبرى التي سعى من خلالها إلى تعميم نموذجه على العالم، ولثورة الاتصالات دورها إذ بدأت دول حضارية كبرى في الترويج لفكرها وثقافتها، خصوصًا تلك الثقافات الشرقية التي وصلت إلى عقر دار الفكر والفلسفة الغربية، بما أسماه البعض العودة إلى الثقافة الروحية عبر البوابة الشرقية بعد عقود من سيطرة الفكر المادي، أما مجتمعاتنا فما زالت مستهلكة للثقافات والفكر مغتربة عن ذاتها. "

انطلاقًا من الفكر سألناه عن مدى توافقه وعلاقته بتعزيز الهوية عند الشباب فيقول: "هوية الإنسان تساوي فكره، فلا هوية بلا فكر وثقافة تشكل نمط تفكير وحياة للإنسان، لذا لابد من عودة الشباب في أمتنا إلى تراثه بعد اغتراب عنه نتيجة عوامل يطول شرحها، إلا أن ما كان يشكل خلاصًا فكريًّا لشريحة كبرى من شباب أمتنا، انهار عمليًّا ونظريًّا؛ وأعني به العولمة وتوابعها، وما يحتاجه الشباب فعلًا في حالة ما بعد الغزو الثقافي أن يطلع على القراءات الموضوعية للتراث الديني التي يقدمها العلماء العاملين والعالمين بزمانهم وتراثهم معًا، بحيث قدموا أصالة فكرية وثقافية ولم يكونوا منفصلين عن واقعهم المختلف عن عصر صدور النصوص، فقرأوه بأدوات عصرهم وجرى النص الديني في عروقهم كما يجري في كل زمان صالحًا حين تصح قراءته وفهمه، ومن نافل القول أننا بحاجة للمزيد من الجهود العلمية في الحوزات والحواضر العلمية في هذا الميدان لإعادة إحياء الحضارة الإسلامية ومشاركتها في الحالة التنافسية الحضارية التي نعيشها، فتعزيز الهوية يبدأ في تقديم الفكر الأصيل كي لا يبحث الشاب عن تجارب هي وليدة ظروف لا تنتمي له، وبالتالي قدمت علاجات لا تتناسب وواقعه، هو ابن حضارة الإسلام، وفيها ما يكفيه ويكفي مجتمعات أخرى".

والحديث عن هوية الشباب يعني الحديث عن مرحلة من التشتت ما بين الشرق والغرب: "لا تزال هوية الشاب المسلم بشكل عام تعيش واقعًا من الضياع ما دام مغتربًا عن تراثه وأصالته، حتى ظهرت ولو بشكل هزيل ظاهرة الإلحاد واللادين عند شريحة من الشباب، نتيجة هذا الضياع والانهزام والاضطراب في الهوية، فتراه منهزمًا أمام حالة التنافس الحضاري بين الشرق والغرب دون أن يرى له مشروعًا يمثل هويته وثقافته وحضارته، الحضارة الإسلامية التي تعد الحضارة الكبرى في منطقتنا تاريخيًّا وامتدت بما قدمت للبشرية شرقًا وغربًا".
السؤال الذي يُطرح وبشكل صريح هل استطعنا أن نوفق ونستفيد ما بين إنجازات الغرب وخصوصيتنا الأيديلوجية؟ يجيب الأستاذ محمد المحميد: "التفاعل الحضاري حالة صحية كان ينبغي أن تسود حينما ساد النمط الغربي في مجتمعاتنا، والتي تعني التعامل مع الآخر الحضاري تعامل الجسم مع حبة الفيتامين حين يأخذ منها احتياجه وما يلاءمه ويلفظ ما لا حاجة له فيه ولا يلاءمه، إلا أن الخلط الحاصل بين ما هو منجز بشري يستحق الإشادة والاستفادة منه، وبين ما هو فكر وثقافة ناتجة عن واقع مختلف تمامًا عن ما نعيش، هذا الخلط أسس لحالة ذوبان حضاري غير صحي، وهو ما سبق ووصفناه بالانهزام الحضاري أمام الآخر، ويعود ذلك لغياب النموذج الحضاري الذي يمثل للأمة هويتها."

إن قضية الهوية وتعزيزها وواقع الفكر والثقافة تحتاج إلى وجود مثقفين وإلى تعزيز أدوارهم ولكن أين هو المثقف وهل لا تزال أزمة المثقف العربي حاضرة: "السؤال المستحق في واقع المثقف العربي هو عن ماهية دوره في المجتمع، المثقف صاحب دورين رئيسيين: الأول هو دور رقابي على المجتمعات العلمية، والدور الثاني إعلامي كصوت للمجتمع العلمي في الواقع العملي في حياة الناس... هنا يُشخص المرء واقع المثقف العربي والإسلامي الذي تفرغ للدور الرقابي بشكل مفرط، مما حوّل دوره الإعلامي إلى تحريضي على المجتمع العلمي وبالذات الديني منه، وللانهزام الحضاري دور في ذلك، مع تحمل الحوزات والحواضر العلمية جزءًا من مسؤولية القطيعة بين المثقف ورجل الدين، لذلك الجواب هو نعم ما زلنا نعيش الأزمة إلى أن يمارس المثقف الدورين بالتوازي."


*  التغيير والنهضة:
يقال بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية، فهل لا تزال هذه الفكرة موجودة؟ وكيف يمكن أن نعززها سيما  أن الأستاذ محمد حبيب المحميد هو من المؤمنين بأن في الاختلاف تكاملًا: "مادام العقل موجودًا ومادام هنالك عقلاء نعم الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، لأن العاقل يعي أن اختلاف الرأي ثراء علمي وثقافي ومعرفي، وبالتالي يأنس بوجود هذه الحالة ويسعى لإيجادها في حال غابت عن الواقع العملي، وتتعزز حالة التعددية عندما يعي الإنسان أن رحمة الله أوسع من أفق البشر الضيق الذي يستوحش من الاختلاف خوفًا من المصير الأخروي الذي يكون فيه النجاة باعتقاده للون واحد ونمط واحد، وهو ليس كذلك حتمًا لأي مطلع على الروايات التي تصف رحمة الله وأحوال القيامة في محضر الرحمن الرحيم، إذًا متى ما استوسع البشر رحمة الله استأنس بالتعددية وتعزز مبدأ أن الاختلاف تكامل، إذ لا عصمة إلا للمعصومين".
ماذا عن مناهجنا التربوية؟ أي دور تلعبه ؟ يرى المحميد بأن: "مدخل أي بناء أو إصلاح في أي دولة هو المناهج التعليمية، لذلك حتمًا لها دور في كل ما هو إيجابي أو سلبي في المجتمع، فكيفما يكون التعليم يكون الواقع والمجتمع، والمنهج لا يعني فقط كتابًا مدرسيًّا أو متنًا علميًّا يعطى للطالب، بل هو أسلوب تربوي في إيصال المعلومة وتنمية عقل المتعلم، هو تفاعل حقيقي بين المعلم والمتعلم، يبدأ بترك الأسلوب التلقيني التعبوي، وإتباع أساليب تفاعلية تخرج أفرادًا قادرين على التفكير الناقد المبدع، يخدمون مجتمعاتهم وأوطانهم وأمتهم فعلًا لا قولًا، فالانتماء والولاء للوطن هو علم وعمل، لا قصائد تدرس أو متون تمجد فيه، والتنمية الحقيقية في أي وطن ومستقبل أي دولة مرهون بالتنمية والإستثمار في العقول، بل ومن معايير تقدم الدول وتأخرها هو تقدم أو تأخر البحث العلمي، ولا يتقدم البحث العلمي إلا في أجواء نقدية مبدعة؛ تنتجها عملية تربوية تعليمية تنتهج أساليب تفاعلية في العلاقة بين المعلم والمتعلم والمادة العلمية."

نصل بعد كل هذه التساؤلات والإجابات إلى علاقة الشباب بالدين فكم من المهم تعزيزها وهي مسؤولية من؟ يجيب: "هو ذات السؤال حول الهوية وضرورة تعزيزها، فالمتدين حتمًا هويته الفكرية دينية، من الضروري تعزيزها بالاطلاع على تراثه وفهمه فهمًا دقيقًا موضوعيًّا، والمسؤولية في ذلك مشتركة بشكل ثلاثي بين الحوزات العلمية والمثقف الإسلامي والشارع المتدين". وحول ما إذا  استطاع الشباب أن يقوموا بالتغيير على الصعد التربوية والعلمية والثقافية والفكرية أي هل نشهد نهضة فكرية وعلمية؟ يعتبر الأستاذ المحميد: "الشباب عصب التغيير والتطوير في المجتمعات، خصوصًا إذا ما سلمنا لما ذُكر في جواب المناهج ودورها في المجتمع، ولكن ليس من العقل أن يتفاءل المرء دون وجود مقتضيات لهذا التفاؤل، لذا كي نشهد نهضة فكرية وعلمية يجب أن نوفر مقتضياتها ونرفع موانعها، أما المقتضيات فهي في إصلاح العملية التربوية التعليمية، والتمسك بالهوية الحضارية من خلال ممارسة كل صاحب دور دوره، وأما الموانع فأبرزها مانع التعصب الذي ساهم في كل ما نعيش من تقهقر نتيجة للصراعات الطائفية أو الفئوية، ولوقف هذا النزيف في جسد الأمة علينا بتوسيع الآفاق واستوساع رحمة الله، ووقف عبث الساسة في استغلال اختلاف المذاهب، وبث التسامح الذي لا يعني التنازل عن المعتقد والمبدأ، ولا يعني الميوعة الفكرية بعدم اتخاذ معتقد ومبدأ، بل هي ثقافة تعايش لمجتمع متعدد، يعمل بالمشتركات ويحترم الاختلافات، ويجعل نقاشها العلمي في محلها، يقول الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): “صلاح شأن الناس التعايش، والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطن وثلث تغافل”

وفي ختام الحوار قدم لنا قراءة سريعة للواقع الثقافي والفلسفي والفكري لمجتمعاتنا بعد ٥ سنوات من الآن: "بحمد الله هناك عقول في زاخرة في الأمة عليها المعول في النهوض بالواقع الثقافي والفلسفي والفكري لمجتمعاتنا، بشرط إيجاد مقتضيات النهوض ورفع الموانع المذكورة، ليست القضية بعدد السنوات، فبمجرد توفر الأرضية المناسبة سيكون الواقع الثقافي والفلسفي والفكري أجمل".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد