قرآنيات

في رحاب القرآن الكريم (1)

الشيخ عبدالغني العرفات

 

فضل القرآن الكريم، والآداب الباطنيّة لتلاوته

أهداف الدرس

فضل القرآن الكريم في القرآن ذاته

فضل القرآن الكريم في كلام العترة الطّاهرة

التعرّف إلى صفة القرآن الكريم

التعرّف إلى الآداب الباطنيّة لتلاوة القرآن الكريم

مقدمة

حقّ أن يتصاغر الإنسان أمام عظمة القرآن الكريم، وأن يكون اعترافه بالعجز خيرًا من المضيّ في بيان فضله.

ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن، وعلوّ كعبه؟

وماذا يقول في بيان فضلِه، وسموّ مقامه؟

وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟

وماذا يكتب الكاتب في هذا الباب؟

وبم يتفوّه الخطيب؟

وهل يصف المحدود إلّا محدودًا؟

أولًّا: القرآن الكريم في القرآن ذاته

كلام الله، معجزة النّبيّ، هداية للبشر

قال الله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ يونس 37

﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ الإسراء (88).

﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ آل عمران 138

ثانيًا: القرآن الكريم في كلام العترة الطّاهرة

ورد عن النبي الأكرم (ص): "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". وبما أنّ العترة الطّاهرة عليهم السّلام هم الأدلّاء على القرآن لما ورد عن النّبيّ الأكرم (ص) قوله: "إنّي تارك فيكم الثّقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض". فأهل البيت (ع) هم العالمون بفضله، لأنهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلّهم على سموّ قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم، ونستضيء بإرشاداتهم.

يضم كتاب بحار الأنوار أحاديث كثيرة في فضل القرآن الكريم جمعها العلامة المجلسيّ في المجلّد التّاسع والثّمانين منه.

قال الحارث الهمدانيّ : "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على عليّ (ع) فقلت: ألا ترى أنّ أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال عليه السلام: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال عليه السّلام: أما إنّي قد سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال عليه السّلام: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الّذي مَن تركه من جبّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، وهو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾، هو الّذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هديَ إلى صراط مستقيم.

قبسات من الحديث

"فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم"

أن تكون إشارة إلى أخبار النّشأة الأخرى من عالـمَيّ البرزخ والحساب والجزاء على الأعمال. ولعلّ هذا الاحتمال هو الأقرب. ويدلّ على ذلك قول أمير المؤمنين (ع) في خطبته: "فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم".
أن تكون إشارة إلى المغيّبات الّتي أنبأ عنها القرآن، ممّا يقع في الأجيال المقبلة.
أن يكون معناها أنّ حوادث الأمم السابقة تجري بعينها في هذه الأمّة، فهي بمعنى قوله تعالى: ﴿لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق﴾ٍ – سورة الانشقاق – الآية 19

"من تركه من جبّار قصمه الله"

فلعلّ فيه ضمانًا بحفظ القرآن من تلاعب الجبّارين، بحيث يؤدّي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به، وإلى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهيّة السابقة. فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف، وهذا أيضًا هو معنى قوله في الحديث: "لا تزيغ به الأهواء" بمعنى لا تغيّره عمّا هو عليه، لأنّ معاني القرآن قد زاغت بها الأهواء فغيّرتها.

وأشار الحديث إلى أنّ أبناء الأمّة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل، ولوجدوه الحَكَم العدل، والفاصل بين الحقّ والباطل. فلو أقامت الأمّة حدود القرآن، واتّبعت مواقع إشاراته وإرشاداته، لعرفت الحقّ وأهله، وعرفت حقّ العترة الطّاهرة الّذين جعلهم النبيّ (ص) قرناء الكتاب، وأنّهم الخلفاء على الأمّة من بعده.

ولو استضاءت الأمّة بأنوار معارف القرآن، لأمنت العذاب الواصب، ولما تردّت في العمى، ولا غشيتهم ليالي الضّلال، ولا ضيّع سهم من فرائض الله، ولا زلّت قدم عن الصراط السويّ. ولكنّها أبت إلّا الانقلاب على الأعقاب، واتّباع الأهواء، والانضواء إلى راية الباطل حتّى آل الأمر إلى أن يكفّر بعض المسلمين بعضًا ويتقرّب إلى الله بقتله، وهتك حرمته، وإباحة ماله، وأيّ دليل على إهمال الأمّة للقرآن أكبر من هذا التشتّت العظيم.

ثالثًا: صفة القرآن الكريم

قال أمير المؤمنين (ع) في صفة القرآن في نهج البلاغة: "ثمّ أنزل عليه الكتاب نورًا لا تطفَأ مصابيحه، وسراجًا لا يخبو توقّده، وبحرًا لا يدرَك قعره، ومنهاجًا لا يضِلّ نهجه، وشعاعًا لا يظلِم ضوءه، وفرقانًا لا يخمَد برهانه، وتبيانًا لا تهدَم أركانه، وشفاءً لا تخشَى أسقامه، وعزًّا لا تهزَم أنصاره، وحقًّا لا تخذَل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحر لا ينزِفه المنتَزِفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يَضِل نهجَها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريًّا لعطش العلماء، وربيعًا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونورًا ليس معه ظلمة، وحبلًا وثيقًا عروته، ومعقلًا منيعًا ذروته، وعزًّا لمن تولاه، وسِلمًا لمن دخله، وهدىً لمن ائتمّ به، وعذرًا لمن انتحله، وبرهانًا لمن تكلّم به، وشاهدًا لمن خاصم به، وفلَجًا لمن حاجّ به، وحاملًا لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسّم، وجنّة لمن استلأم، وعِلمًا لمن وعى، وحديثًا لمن روى، وحكمًا لمن قضى".

التدبر في الخطبة

"لا يخبو توقّده"

أنّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنه غضّ جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامّة المعنى. عن أبي عبد الله (ع): "إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا".

"ومنهاجًا لا يضلّ نهجه"

إنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه، فهو حافظ لمن اتّبعه عن الضلال.

"وتبيانًا لا تهدم أركانه"

1 / أنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق؛ محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.

2 / أنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن من التحريف.

"ورياض العدل وغدرانه"

الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات؛ العدل بمعنى الاستقامة؛ والغدران جمع غدير، وهو الماء الّذي تغدره أي تنتجه السيول. معنى هذه الجملة: أنّ العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرّقاتها.

"وأثافي الإسلام"

الأثافيّ (كأمانيّ) جمع أثفيّة - بالضمّ والكسر - وهي الحجارة الّتي يوضع عليها القدر. ومعنى ذلك: أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أنّ استقامة القِدر على وضعه الخاص تكون بسبب الأثافيّ.

"وأودية الحقّ وغِيطانه"

غِيطان جمع غَيْط، وهو المطمئن الواسع من الأرض. يريد بذلك: أنّ القرآن مَنبَت الحقّ، وفي الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أن المتمسّك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحقّ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ، ولا حقّ في غيره.

"وبحر لا ينزِفه المنتَزِفون"

نَزَفَ ماء البئر: نَزَحَ كله. ومعنى هذه الجملة والجمل الّتي بعدها: أنّ المتصدِّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنّه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.

"وآكام لا يجوز عنها القاصدون"

الآكام جمع أَكَم (كقصب)؛ وهي جمع أكَمَة (كقصبة)، وهي التلّ. والمراد: أنّ القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام. وقد يكون المراد أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ.

رابعًا: فضل قراءة القرآن الكريم

القرآن الكريم هو النّاموس الإلهيّ الّذي تكفّل للناس إصلاح الدّين والدنيا، وضمن لهم سعادة الآخرة والأولى، فكلّ آية من آياته منبع فيّاض بالهداية ومعدن من معادن الإرشاد والرحمة. فالّذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدّين والدّنيا، عليه أن يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ويجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته، ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم وتجارة لن تبور.

عن الإمام الصادق (ع) قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية". وقال (ع): "ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتّى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيّئات؟". وقال (ع): "عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارقَ، فكلّما قرأ آية يرقى درجة".

القراءة في المصحف

دلّت جملة من الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب. قال إسحاق بن عمار للصادق (ع): جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ فقال لي: "لا. بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل. أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة؟". وقال (ع): "من قرأ القرآن في المصحف متِّع ببصره، وخفِّف عن والديه وإنْ كانا كافرين".

تمنع هجران نسَخ الكتاب الكريم.
سبب لحفظ البصر من العمى والرّمد.
تخفّف على الوالدين وإن كانا كافرين.
تمتّع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدّقيقة.
توجِد لذة الوقوف على المعاني ومتعة الطموح إليها

القراءة في البيوت

من أسرار قراءة القرآن الكريم في البيوت إذاعة أمر الإسلام، وانتشار قراءة القرآن، فإنّ الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة، وقرأه الطفل، وذاع أمره وانتشر. فلو تم تخصيص مكان لقراءته لما تهيّأ ذلك لكل أحد وفي أي وقت. ومن أسرارها أيضًا إقامة الشعار الإلهيّ، إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بكرة وعشيًّا، فيعظم أمر الإسلام في نفوس السّامعين. ورد في الحديث: "إنّ البيت الّذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله تعالى فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السّماء كما يضيء الكوكب الدرّيّ لأهل الأرض، وإنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن، ولا يذكر الله تعالى فيه تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين".

خامسًا: الآداب الباطنية لتلاوة القرآن الكريم

إن للقرآن حقًّا علينا وينبغي أن نوفيه حقّه برعاية جملة من الآداب أثناء تلاوته والاستماع إليه، ومنها:

تلاوته حق تلاوته ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِ﴾ – سورة البقرة – الآية 121

تلاوةً تحقق الهداية ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ – سورة البقرة – الآية 2

قال الإمام الصادق (ع): "يرتّلون آياته ويتفهّمون معانيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخشون عذابه ويتمثّلون قَصَصَه ويعتبرون أمثاله ويأتون أوامره ويجتنبون نواهيه...". وتتحصل الهداية بأمور ينبغي مراعاتها؛ وهي كما يلي:

الإخلاص في القراءة

الإخلاص من الآداب المفيدة في تلاوة القرآن الكريم. وقال الإمام الباقر (ع): "قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتّخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه، فأسهر به ليله، وأظمأ به نهاره، وقام به في مساجده، وتجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع الله العزيز الجبّار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء، وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فواله لَهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر".

التدبر في القرآن

﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾ – سورة محمد – الآية 24

فالقراءة الّتي لا تدبّر فيها لا خير فيها.

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ – سورة الحديد–  الآية 16

وكان رسول الله (ص) يقول: "إنّي لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن". وجاء عن أمير المؤمنين (ع): "ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه".

وعنه عليه السلام أنّه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرًا بالعلم وأنت أنت؟ فقال عليه السلام: "إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَاد...﴾". وعن الزّهريّ قال سمعت عليّ بن الحسين (ع) يقول: "آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها".

التّفكّر

من الآداب المهمّة لقراءة القرآن التفكّر، وقد كثرت الدعوة إلى التّفكّر في القرآن الشريف. قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ - سورة النحل- الآية 44

﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ - سورة الأعراف- الآية 176

وقد نقل عن رسول الله (ص) أنه لـمّا نزلت الآية الشريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ - سورة آل عمران – الآية 190 قال (ص): "ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها".

التّأثّر والخشية

قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ سورة الإسراء – الآيات 107-108-109

وهذه أحوال المستمع لتلاوة القرآن المتدبّر فيه فكيف بمن يتلوه بنفسه؟

قال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ - سورة الحشر – الآية 21

البكاء والحزن

ورد عن النبي الأكرم أنه قال (ص): "من قرأ القرآن ولم يخضع لله ولم يرقّ قلبه ولا يكتسي حزنًا ووجلًا في سرّه، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمتثل حدوده؟". وورد في الخبر: "اقرأوا القرآن بالحزن". والقرآن كلام الحقّ، ومن الأدب حين نقرأ هذا الكلام أن نكبره ونعظّمه، فلا نستهين بأوامره ونواهيه وإنذاره ووعيده وما ينبئ عنه من حقائق وأسرار.

لقد تجلّت عظمة الله في القرآن الكريم. فيجب علينا حينما نقرأ القرآن أن نستحضر الحزن في قلوبنا والدمعة في عيوننا، والخوف والشفقة في نفوسنا كما هو حال النبيّ (ص) حين كان يستمع إلى القرآن الكريم، فقد كانت عيناه تفيضان بالدمع. وكان (ص) يقول: "ما من عين فاضت من قراءة القرآن إلا قرّت يوم القيامة". ومن لم يجد في نفسه خشية وانكسارًا فليتباكَ، لقوله (ص): "اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا".

وعن أمير المؤمنين (ع) في وصف المتّقين: "يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعًا، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقًا، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم".

التطبيق

ومن الآداب المهمّة لقراءة القرآن الّتي تنيل الإنسان نتائج كثيرة واستفادة غير محدودة: التطبيق. فمن أراد أن يأخذ من القرآن الشريف الحظّ الوافر فلا بدّ له أن يطبّق كلّ آية شريفة على حالات نفسه حتّى يستفيد استفادة كاملة. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ - سورة الأنفال – الآية 2

وفي نهج البلاغة: "الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم". فلا بدّ للسالك أن يلاحظ هذه الأوصاف الثلاثة منطبقة عليه:هل يَجِل قلبه إذا ذكر الله ويخاف؟ وإذا تليت عليه الآيات الشريفة هل يزداد إيمانًا في قلبه؟ وهل اعتماده وتوكّله على الله تعالى أم أنّه محروم من ذلك؟

القرآن الكريم يخاطبنا

علينا كمؤمنين أن نعيَ أنّ قضايا القرآن ومفاهيمه ومواعظه ليست من قضايا الماضي الّذي كان، إنّما هي قضيّة اللّحظة وكلّ لحظة. إنّها قضيّتنا نحن، والخطاب موجه لنا، ولكلّ فرد فينا. وينبغي أن يستشعر القارئ للقرآن أنّه هو المخاطَب بالذّات وأنّ القرآن ليس كتاب مطالعة يقرأ فيه عن عصر من التاريخ فات. وعندما يتفكّر القارئ للقرآن في كلّ آية من آياته الشريفة ويطبّق مفادها على حاله ونفسه فإنّه يرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به. فمثلاً، يتفكر في قصة إبليس ويتساءل: كيف أنه طرد من المقامات العالية؟! فعلينا أن نشعر دائمًا بحياة القرآن وأنّه حيّ دائمًا، ليهب الحياة إلى قلوبنا وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدس الله تعالى.

هجران القرآن الكريم

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ - سورة الأنفال - الآية 2

إنّ مهجوريّة القرآن لها مراتب، ولعلّنا متّصفين بالعمدة منها. أترى أنّنا إذا جلّدنا المصحف الشريف جلدًا نظيفًا وقيّمًا أو إذا قرأناه أو استخرنا به وقبّلناه ووضعناه على أعيننا، لا نكون هاجرين له؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده والاهتمام في جهاته اللغويّة والبيانيّة والبديعيّة، ما اتّخذناه مهجورًا؟ هل أنّنا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة ما اتخذناه مهجورًا؟ إنّ عمدة هجر القرآن هي عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة. ونحن للأسف قد نكون متّصفين بهذه المرتبة من الهجر!

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد