مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

ما يراه الشّيطان ولا نراه

 ما يراه الشّيطان ولا نراه.. أحد أسرار المواجهة بين الحقّ والباطل

 

{وَإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَري‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ‏ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَديدُ الْعِقاب}‏.[1]

 

يحكي لنا القرآن الكريم عن موقف للشّيطان يبدو أنّه ثابت ومتكرر في جميع المواجهات التي تجري بين أوليائه وأعدائه. فبعد تحريض أتباعه على مواجهة المؤمنين من أهل الحق، وحين تحتدم المعركة ويقترب موعد الحسم، نجد الشيطان يتراجع بصورة غير متوقعة أبدًا، ويعلن لجماعته عن سبب تراجعه بأنّه يرى ما لا يرون!

 

تصوروا لو أنّ المؤمنين استطاعوا في هذه المواجهات أن يروا ما يراه الشيطان، وأدركوا ما يخيف الشيطان إلى هذا الحد بحيث يتراجع وينكص ويثبط أتباعه بهذه الطريقة. لا شك بأنّ المؤمنين هنا لن يحجموا ولن يضعفوا أو يهنوا. فإنّ من أهم عوامل الوهن في صفوف أهل الحق هو ذلك التردد الذي ينشأ من عدم الاطلاع والإحاطة بأبعاد المواجهة وخباياها.. ففي النهاية، العامل الحاسم في هذه المواجهات هو الصبر والثبات والمضي على الطريق دون خوف من العواقب.

 

هناك مواجهات يمكن أن تقع بين المؤمنين وأتباع الشيطان وتكون النتيجة فيها لصالح المؤمنين حتمًا، لكن لأنّ المؤمنين لا يعرفون هذه المواجهات بالذات، قد لا يخوضونها. وبذلك يخسرون فرصة عظيمة ربما لن تتكرر.

 

ما يجري في هذا العالم أمر ملفت وعجيب، ويجب أن نتعرف إليه لأنّه قد يكشف لنا عن حقيقة غاية في الأهمية. ففي الصراع الدائر بين أهل الحق والباطل، يمكن القول بأنّ حركة أهل الحق غالبًا ما تكون متزامنة مع وجود خيارات متعددة وسبل مختلفة، في حين أنّ حركة أهل الباطل تكون دائمًا وفق انعدام الخيارات إلا خيارًا واحدًا فقط.. أهل الباطل في هذه المواجهة هم كالمسيرين الذين ـ وإن اجتهدوا في وضع الخطط والمؤامرات ـ يجدون أنفسهم دومًا مضطرين لحركة واحدة؛ وهذا في الواقع بخلاف ما يتصوره الكثيرون. فهناك من يظن بأنّ أهل الباطل يتحركون بما يشبه لعبة الشطرنج في هذا الصراع (يوجد آلاف الخطط للقضاء على الملك ـ كش ملك).

 

باتخاذهم قرار مواجهة الحق، يصبح أهل الباطل حينئذٍ في حالة من الاضطرار الدائم، ولن يروا هنا إلا الهلاك أو هذا الموقف بعينه ولا غير. ولو استطعنا أن ندخل إلى أذهان قادة الباطل وزعمائه لوجدناهم دائمًا أمام هذا النوع من المواقف الاضطرارية، وكأنّهم يسيرون في متاهة، لكن كل خطواتها ومساراتها محددة سلفًا منذ البداية إلى النهاية.

 

لو استطاع أهل الحق أن يقرأوا أفكار زعماء الباطل وشياطينهم لتمكنوا من تحديد تلك المواجهة المصيرية التي سينكصون على أعقابهم فيها؛ وبذلك لن يتراجعوا أو يخشوا أي عاقبة لأنّها ستكون لصالحهم حتمًا. العجيب هنا هو أنّ الشيطان وفي هذه اللحظات الأخيرة سيرى شيئًا ما يجعله يدعو أتباعه للتراجع، ولكن أهل الحق لا يرون هذا الأمر، بالطبع، إلا من اختار الله واجتبى. والقصة كلها تكمن في هذه النقطة بالذات.

 

بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية كان القرار الأمريكي يقضي بالانتقام من اليابان وتدمير صناعتها وتطورها وإرجاعها إلى العصر الحجري. وبعد أن أعدم الأمريكيون أكثر من أربعة آلاف ضابط ياباني رفيع المستوى، وحين بدأوا بتفكيك مصانع اليابان، جاء القرار من واشنطن على وجه السرعة بضرورة التوقف عن أي إجراء انتقامي، واتخاذ مسار آخر على عكس المسار الأول. فقد أدرك الأمريكيون في مثل هذه اللحظات أنّهم لو فعلوا ذلك فإنّ هذه الدولة بشعبها الناشط والذكي ستتحول بين عشية وضحاها إلى دولة شيوعية وسيكون الاتحاد السوفياتي (الذي أضحى المنافس الأول لأمريكا) أكبر مستفيد من ذلك؛ تصوروا لو أنّ اليابان أصبحت حليفة لروسيا في ذلك الوقت.

 

وقد حصل أمر شبيه لذلك مع ألمانيا بعد هزيمتها، حين تم تقسيمها بين الحلفاء المنتصرين؛ فبعد عدة أيام مارس الأمريكيون ضغوطًا شديدة لمنع الفرنسيين والإنكليز من إكمال عمليات انتقامهم الواسعة بحق النخب والكوادر والضباط الألمان؛ وذلك لأنّ الروسي سيكون المستفيد الأكبر من الجزء الشرقي من ألمانيا بما فيه من علماء وكوادر لا مثيل لهم. وبذلك تصبح هذه القوة بخدمة مصالحه الاستراتيجية (وقد حصل ذلك بالفعل حيث أضحى العلماء الألمان الذين صادرهم الروس أهم ركن في تطوير الصناعات العسكرية الروسية).

 

ثم نأتي إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956حيث نجد الأمريكيين مرة أخرى يهددون الفرنسيين والإنكليز والصهاينة بشكلٍ مباشر لإيقاف عدوانهم بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس؛ وذلك لأنّ الروس كانوا يستغلون هذه الأزمة لسحق الانتفاضة في أوروبا الشرقية. لقد وجد الأمريكيون أنّ خسارة هذه المنطقة هي أكبر بكثير مقارنةً بما يمكن أن يحصل في مصر بحسب الحسابات الاستراتيجية.

 

الأمر نفسه يتكرر في إيران عشية الثورة عام 1979، حيث يرى الأمريكيون أنّ إيران قد تصبح في قبضة الروس إن هم استمروا في دعمهم المطلق للشاه. لقد كان للتراخي الأمريكي في مرحلة وجيزة أكبر الأثر على معنويات الشاه وجيشه، حيث ظنّوا أنّهم فقدوا دعم أمريكا لهم ممّا أدى إلى اضطرابهم وتشتت أمرهم، الأمر الذي سمح للثوار بتحقيق نصر تاريخي لم يكن الشيطان الأمريكي يدرك عواقبه جيدًا.

 

العبرة هنا تكمن في اكتشافنا لهذه المواجهة التي تجعل الشيطان الأكبر يتراجع وينكص ويضعف معنويات أتباعه. لربما كان أهل الحق سيختارونها بكامل الثقة والاندفاع فيكون لهم النصر المؤزر!

ـــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة الأنفال، الآية 48.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد