علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (3)

.... لأنها نظرية ثورية بتمام المعنى الذي يقترحه كون، فلقد رافقها تحول في النموذج الفكري. وهو تحول مثالي إذا ما نظرنا إليه من خلال مرتكزات النموذج كما وضعتها Allori في ورقتها. نموذج يضم مجموعة من المفاهيم الصادمة للعقل، خلقت معها تيارات ابيستمولوجية ورؤى فلسفية للوجود، ظلت في صراع منذ اكتمالها وإلى يومنا هذا. ويمتلك رؤية مختلفة للعالم ومنظومة رياضية جديدة تختلف عن ميكانيكا نيوتن لفهم ديناميكا الحركة والتفاعلات في العالم الميكرسكوبي.

 

في هذا النموذج الكمي أو الكمومي للعالم، يتكون العالم في بناه الأساسية من أجسام كمومية وليست فقط أجسامًا نقطية كما هي عليه الرؤية في النموذج الكلاسيكي. لقد دلت بعض التجارب مثل تجربة ثنائية الشق على أن أجسامًا كالإلكترونات يمكن أن تحيد كما تفعل الموجات. وهنا تبرز إشكالية وجودية (ontological problem)، لأن الجسيمات والموجات ليسا متوافقين، فالجسيمات من حيث التعريف تملك مواقع محددة في الفضاءobjects) (localized بينما الموجات لها خاصية الانتشار (delocalized objects).

 

وبينما يمكن للموجات أن تتداخل بحيث يمكن لطاقة هذه الموجات عند التداخل أن تزداد أو تقل، فإن ذلك ممتنع على الجسيمات. لكن هذه التجربة التي يمكن أن تلخص كل غرابة الأفكار في هذه النظرية ترينا أن الجسيمات تتصرف كالموجات. لقد دلت التجارب أيضًا على أن الموجات تتصرف كالجسيمات كما في تجربة التأثير الكهروضوئي. نحن إذن بإزاء واقعية مختلفة عن النموذج السابق واقعية كمومية "نسبة لنظرية الكم"، يسميها (نيلز بور) وهو أحد مؤسسي النظرية بثنائية الموجة – الجسيم. فالإلكترونات ليست أجسامًا بالمعنى الكلاسيكي بل أجسام ثنائية dual objects، ففي بعض التجارب يظهر منها السلوك الجسيمي، وفي تجارب أخرى يظهر منها السلوك الموجي.

 

وتزداد المشكلة الأنطولوجية تعقيدًا عندما تكشف التجارب عن دور الوعي الإنساني في خلق واقعية محددة للعالم الكمي. فقبل المراقبة الواعية، بحسب التفسير الذي تتبناه مدرسة كوبنهغن وهي أحد أكبر المدارس في تفسير النظرية الكمية والمتمسكة بروح العقلانية العلمية، ليس للعالم الكمي واقعية محددة على الإطلاق، واقعية مبهمة تقبل التناقض الممتنع في المنطق الصوري وفي التصور العقلاني للوجود. فالعالم الكمي قبل القياس يمكن أن يتخذ واقعيات متناقضة في نفس الوقت.

 

ولتوضيح هذا المعنى نستخدم قطة شرودينغر. لو تصورنا قطة في صندوق مغلق وفي هذا الصندوق يوجد مادة مشعة. فقبل لحظة فتح الصندوق، يمكن بحسب تفسير مدرسة كوبنهغن أن تكون القطة ميتة وغير ميتة في نفس الوقت، فقبل لحظة القياس كل الحالات مفتوحة وممكنة ولا يوجد ما يمنع من وجود حالات من التناقض الممتنع عقلاً. لقد صوب هذا التفسير سهامه نحو بديهية تعتبر ضرورة لكل ممارسة معرفية. وعندما نفتح الصندوق فإن الموجة تنهار وعلى أثر انهيارها يمكن تحديد واقعية واحدة للقطة.

 

وتبرز في هذه النظرية مشكلة أخرى لم تكن موجودة في النموذج الكلاسيكي للعالم  وتتمثل في معضلة القياس. فأدوات القياس تؤثر في واقعية هذا العالم الميكروسكوبي وتحد من معرفتنا به، وقد عبرت النظرية عن هذا العجز رياضيًّا من خلال مبدأ الارتياب أو اللاتحديد للفيزيائي هايزنبرغ. وينص هذا المبدأ على أننا لا نستطيع أن نعرف على نحو الدقة المطلقة في ذات الوقت سرعة الجسيم وموقعه. فإذا حددنا بدقة عالية سرعة الجسيم فإنا لن نتمكن أن نحدد موقعه بدقة والعكس صحيح. واتجهت مدرسة كوبنهغن في تفسير هذا المعنى الرياضي لمبدأ الارتياب بأن الجسيمات ليس لها متغيرات ديناميكية محددة كالسرعة والموقع، وإنما تمتلك أحد هذه المتغيرات عند لحظة القياس.

 

وعلى ضوء هذا المبدأ لم يعد بإمكاننا أن نتعرف على مسار هذه الجسيمات الكمية من خلال ميكانيكا نيوتن لأن مشروطية معرفة مستقبل هذه الجسيمات المعرفة التامة بكامل حالتها في لحظة ما، وهذا ممتنع علينا في الواقع الكمي. لذلك طورت النظرية ميكانيكا موجية، هذه الميكانيكا لا تعطينا قياسات دقيقة لخواص هذه الجسيمات المقاسة بل توزيعات محتملة. فمثلاً هذه النظرية لا تعطينا الموقع الدقيق للجسيم، إنما تعطيك قيمة احتمالية كبيرة لوجوده في منطقة من الفراغ دون أن تلغي وجوده في بقية الأماكن. هذه النظرية مؤسسة على منطق احتمالي إحصائي، لكن تكمن المشكلة فلسفيًّا في التفسير الذي تقدمه مدرسة كوبنهغن لهذا المنطق الاحتمالي في النظرية.

 

تقول لنا مدرسة كوبنهغن أن الاحتمالات في هذه النظرية هي ليست قائمة على عدم معرفتنا التامة بهذا العالم الكمي، بل لأن الاحتمالات هي جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا العالم. ليس في هذا العالم سببية خاصة تعطي نتيجة خاصة، فلا يوجد معنى لهذه السببية في هذا العالم الكمي، هذا العالم متلبس بهوية احتمالية وإحصائية ولا علاقة لهذه الهوية بمدى معرفتنا به من قريب أو بعيد. وهنا تقدم لنا مدرسة كوبنهغن تفسيرًا يضرب بديهية رئيسية في الفكر الإنساني وتقول لنا أن جميع الأحداث التي تقع في هذا العالم لا تقوم على السببية وإنما على الاحتمالات. فإذا كانت السببية في النموذج الكلاسيكي مفهومًا مركزيًّا، فإن الإحتمالات هي المفهوم المركزي في هذا النموذج الكمي.

 

هذا التفسير الذي تقدمه لنا مدرسة كوبنهغن والملتزمة بروح العقلانية العلمية في صورتها الفلسفية الظاهرية يطرح إشكالات فلسفية عميقة على المستوى الإبيستمولوجي والأنطلوجي، ويفعل الحالة الفلسفية لتمارس فن طرح السؤال لمثل هذه التفسيرات التي تطال بنية فكرية للعقل الإنساني عبر عنها التيار العقلاني الأوروبي في صورة الكجيتو الديكارتي والأفكار الفطرية التي أودعها الله في صميم البنية الفكرية للإنسان، وعبرت عنها الفلسفة الإسلامية في صورة بديهيات العقل التي تعرف عليها الإنسان في مرحلة تسبق التعقل هي مرحلة الشهود الباطني حيث تكون النفس حاضرة لذاتها ومطلعة على شؤونها.

 

بهذا التفسير فإننا لن نكون في أمان معرفي من حيث أننا لسنا قادرين على التنبؤ بالمفاجاءت التي تقدمها لنا التجربة كلما تطورت تقنيات الإنسان في سبر أغوار هذا الكون. هل يمكن مثلاً أن نقول بكل ثقة أن هذا التفسير هو خلاصة التجربة الإنسانية في ميدان العلوم أو الشكل النهائي الإبيستمولوجي والفلسفي للعلم؟ بالطبع ليس باستطاعتنا بحسب منطق العقلانية العلمية أن نقول مثل هذا الكلام لأننا لم نصل إلى نهاية العلم، وما زال أمام التجربة مشوار طويل جدًّا في الكشف عن معطيات جديدة قدمها لنا العقل النظري كما سوف نبين. وعندئد يمكن لنا القول أن التفسير الملتزم بالعقلانية العلمية لا يؤمن لنا قاعدة اليقين والأمان وإنما يترك العقل البشري في حالة من التحفز الدائم للمفاجاءت التي تقدمها لنا التجربة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد