علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

علمه سبحانه بذاته

إنّ علمه سبحانه بذاته ليس حصولياً بمعنى أخذه الصورة من الذات ومشاهدتها عن ذاك الطريق لامتناع هذا القسم من العلم عليه... بل حضوري بمعنى حضور ذاته لذاته، ويدل على ذلك أمران:

 

الأول ـ إنّ مفيض الكمال لا يكون فاقده:

 

إِنَّه سبحانه خلق الإِنسان العالم بذاته علماً حضورياً، فمُعطي هذا الكمال يجب أن يكون واجداً له على الوجه الأتمّ والأكمل لأن فاقد الكمال لا يعطيه، فهو واجد له بأحسن ما يمكن. ونحن وإن لم نُحِطْ ولن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته غير أنَّا نرمُز إلى هذا العِلْم بــ «حضور ذاته لدى ذاته وعلمه بها من دون وساطة شيء في البَيْن».

 

وباختصار: لا يسوغ عند ذي فطرة عقلية أن يكون واهبُ الكمال ومفيضُه فاقداً له. وإلاّ كان الموهوب له أشرف من الواهب، و المستفيدُ أكرمَ من المفيد. وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إليه ومنها الذوات العالمة بأنفسها، وجب أن يكون الواجب واجداً لهذا الكمال أي عالماً بذاته عِلماً يكون نفس ذاته لا زائداً عليها (1).

 

الثاني ـ إنَّ عوامل غيبوبة الذَّات واختفائها غير موجودة:

 

توضيحه: إنَّ الموجود المادي بما أنّه موجود كمّي ذو أبعاض وأجزاء ليس لها وجود جمعي ـ إذ لا تجتمع أجزاؤه في مقام واحد ـ تغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنَّه مادي أنْ يعلم بذاته، لمكان الغيبوبة المسيطرة على أجزاء ذاته.

 

فالغيبوبة مضادة لحضور الذات وتمنع تحقق علم الذات بالذات. فإِذا كان الموجود منزّهاً من الغَيْبة والجزئية والتَّبَعُّض وكان موجوداً بسيطاً جمعياً دون أجزاء وأبعاض، كانت ذاتُه حاضرةً لديها حضوراً كاملاً مطلقاً. وبذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا لكن لا بمعنى حضور أبعاض أجسامنا وأبداننا بل بمعنى حضور الواقعية الإنسانية المعبر عنها بلفظة «أنا» المنزهة عن الكمّ والبَعْض والتجزئة.

 

فلو فرضنا موجوداً على مستوى عال من التجرد والبساطة عارياً عن كل عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادي، كانت ذاته حاضرة لديه. وهذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتم وجه لتنزهه عن المادية والتركّب والتفرّق كما سيوافيك برهان بساطته عند البحث عن الصفات السلبية.

 

وهناك دلائل أُخر تركناها رَوْماً للاختصار. غير أنَّ هناك جماعة ينفون علمه بذاته وإليك بيان مذهبهم:

 

العلم بالذَّات يستلزم التغاير:

 

استدلَّ النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة قائمة بين العالمِ والمعلوم والنسبة إنَّما تكون بين الشيئين المتغايرين، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير ولا إثنينيَّة. وباختصار: الشيء الواحد أعني سبحانه تعالى، بما هو شيء واحد، لا تتصور فيه نسبة.

 

وقد أجاب عنه المحققون بما هذا حاصله إنّ التعدّد والتغاير إنما هو في العلم الحصولي لأنه عبارة عن إضافة العالِم إلى الخارج بالصورة الذهنية، ففيه الصورة المعلومة غير الهُويَّة الخارجية. وأمَّا العلم الحضوري فلا يشترط فيه التغاير خارجاً بل يكفي التعدد اعتباراً.

 

مثلا: إنَّه سبحانه بما أنّ ذاته غير غائبة عن ذاته فهو عالم، وبما أنَّ الذات حاضرة لديها فهي معلومة.

 

وبعبارة أخرى: إنّ إطلاق العِلْم و العالِم و المعلوم لأجل حيثيات واعتبارات. فباعتبار انكشاف الذات للذات يسمى ذلك الانكشاف «عِلْماً»، وباعتبار كون الذات مكشوفة لدى الذات يطلق عليها «معلومة»، وباعتبار كونها واقفة على ذاتها تسمى «عالِمة». ولو اعتبرتَ كيفية علم الإِنسان بذاته، لربما يسهل عليك تصديق ذلك.

 

وإلى ما ذكرنا يعود قول المحققين إنّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار. وهنا، ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرةٌ لها من حيث إنها معلومة، وذلك كاف في تعلق العِلْم (2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ أنظر الأسفار ، ج 6 ، ص 176. و سيوافيك عينيّة صفاته مع ذاته في الأبحاث الآتية.

2 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 175 ، و شرح القوشجي ، ص 313.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد