علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

في الوجود الخارجي والوجود الذهني (2)

 

السيد محمد حسين الطبطبائي ..

وإما إشكال كون شيء واحد جوهراً وعرضاً معاً ، فالجواب عنه ما تقدم ، أن مفهوم العرض عرض عام ، شامل للمقولات التسع العرضية وللجوهر الذهني ، ولا إشكال فيه.

وفيه أن مجرد صدق مفهوم مقولة من المقولات على شيء ، لا يوجب اندراجه تحتها كما ستجيء الإشارة إليه.

على أن كلامهم صريح ، في كون العلم الحصولي كيفاً نفسانيًّا ، داخلاً تحت مقولة الكيف حقيقة من غير مسامحة.

ومنها ما ذكره صدر المتألهين ره في كتبه ، وهو الفرق في إيجاب الاندراج ، بين الحمل الأولي وبين الحمل الشائع ، فالثاني يوجبه دون الأول ، بيان ذلك ، أن مجرد أخذ مفهوم جنسي أو نوعي ، في حد شيء وصدقه عليه ، لا يوجب اندراج ذلك الشيء تحت ذلك الجنس أو النوع ، بل يتوقف الاندراج تحته على ترتب آثار ، ذلك الجنس أو النوع الخارجية على ذلك الشيء.

فمجرد أخذ الجوهر والجسم مثلاً في حد الإنسان ، حيث يقال ، الإنسان جوهر جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق ، لا يوجب اندراجه تحت مقولة الجوهر أو جنس الجسم ، حتى يكون موجوداً لا في موضوع باعتبار كونه جوهراً ، ويكون بحيث يصح أن يفرض فيه ، الأبعاد الثلاثة باعتبار كونه جسماً وهكذا.

وكذا مجرد أخذ الكم والاتصال في حد السطح حيث يقال ، السطح كم متصل قار منقسم في جهتين ، لا يوجب اندراجه تحت الكم والمتصل مثلاً ، حتى يكون قابلاً للانقسام بذاته من جهة أنه كم ، ومشتملاً على الفصل المشترك من جهة أنه متصل وهكذا.

ولو كان مجرد صدق مفهوم على شيء موجباً للاندراج ، لكان كل مفهوم كلي فرداً لنفسه ، لصدقه بالحمل الأولي على نفسه ، فالاندراج يتوقف على ترتب الآثار ، ومعلوم أن ترتب الآثار ، إنما يكون في الوجود الخارجي دون الذهني.

فتبين أن الصورة الذهنية ، غير مندرجة تحت ما يصدق عليها من المقولات ، لعدم ترتب آثارها عليها ، لكن الصورة الذهنية ، إنما لا تترتب عليها آثار المعلوم الخارجي من حيث هي وجود ، مقيس إلى ما بحذائها من الوجود الخارجي، وأما من حيث إنها حاصلة للنفس ، حالاً أو ملكة تطرد عنها الجهل ، فهي وجود خارجي موجود للنفس ناعت لها، يصدق عليه حد الكيف بالحمل الشائع ، وهو أنه عرض لا يقبل قسمة ولا نسبة لذاته ، فهو مندرج بالذات تحت مقولة الكيف ، وإن لم يكن من جهة كونه وجوداً ذهنيًّا ، مقيساً إلى الخارج داخلا تحت شيء من المقولات ، لعدم ترتب الآثار ، اللهم إلا تحت مقولة الكيف بالعرض.

وبهذا البيان يتضح اندفاع ما أورده بعض المحققين ، على كون العلم كيفاً بالذات ، وكون الصورة الذهنية كيفاً بالعرض ، من أن وجود تلك الصور في نفسها ووجودها للنفس واحد ، وليس ذلك الوجود والظهور للنفس ، ضميمة تزيد على وجودها تكون هي كيفاً في النفس ، لأن وجودها الخارجي لم يبق بكليته ، وماهياتها في أنفسها كل من مقولة خاصة ، وباعتبار وجودها الذهني لا جوهر ولا عرض ، وظهورها لدى النفس ، ليس سوى تلك الماهية وذلك الوجود ، إذ ظهور الشيء ليس أمراً ينضم إليه ، وإلا لكان ظهور نفسه ، وليس هناك أمر آخر والكيف من المحمولات بالضميمة ، والظهور والوجود للنفس لو كان نسبة مقولية ، كان ماهية العلم إضافة لا كيفاً ، وإذا كان إضافة إشراقية كان وجوداً ، فالعلم نور وظهور وهما وجود ، والوجود ليس ماهية.

وجه الاندفاع ، أن الصورة العلمية هي الموجودة للنفس الظاهرة لها ، لكن لا من حيث كونها موجوداً ذهنيًّا ، مقيساً إلى خارج لا تترتب عليها آثاره ، بل من حيث كونها حالا أو ملكة للنفس تطرد عنها عدماً ، وهي كمال للنفس زائد عليها ناعت لها ، وهذا أثر خارجي مترتب عليها ، وإذا كانت النفس موضوعة لها مستغنية عنها في نفسها ، فهي عرض لها ويصدق عليها حد الكيف ، ودعوى أن ليس هناك أمر زائد على النفس ، منضم إليها ممنوعة.

فظهر أن الصورة العلمية من حيث كونها ، حالا أو ملكة للنفس كيف حقيقة وبالذات ، ومن حيث كونها موجوداً ذهنيًّا ، كيف بالعرض وهو المطلوب.

الإشكال الثالث ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، وحصول الأشياء بأنفسها في الأذهان كون النفس ، حارة باردة عريضة طويلة ، متحيزة متحركة مربعة مثلثة مؤمنة كافرة وهكذا ، عند تصور الحرارة والبرودة إلى غير ذلك ، وهو باطل بالضرورة بيان الملازمة ، أنا لا نعني بالحار والبارد والعريض والطويل ونحو ذلك ، إلا ما حصلت له هذه المعاني وقامت به.

والجواب عنه ، أن المعاني الخارجية كالحرارة والبرودة ونحوهما ، إنما تحصل في الأذهان بماهياتها لا بوجوداتها العينية ، وتصدق عليها بالحمل الأولي دون الشائع ، والذي يوجب الاتصاف حصول هذه المعاني ، بوجوداتها الخارجية وقيامها بموضوعاتها ، دون حصول ماهياتها لها وقيام ما هي هي بالحمل الأولي.

الإشكال الرابع أنا نتصور المحالات الذاتية ، كشريك الباري واجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وسلب الشيء عن نفسه، فلو كانت الأشياء حاصلة بأنفسها في الأذهان ، استلزم ذلك ثبوت المحالات الذاتية.

والجواب عنه ، أن الحاصل من المحالات الذاتية في الأذهان ، مفاهيمها بالحمل الأولي دون الحمل الشائع ، فشريك الباري في الذهن شريك الباري بالحمل الأولي ، وأما بالحمل الشائع فهو كيفية نفسانية ممكنة مخلوقة للباري ، وهكذا في سائر المحالات.

الإشكال الخامس أنا نتصور الأرض ، بما رحبت بسهولها وجبالها و براريها وبحارها ، وما فوقها من السماء بأرجائها البعيدة ، والنجوم والكواكب بأبعادها الشاسعة ، وحصول هذه المقادير العظيمة في الذهن ، بمعنى انطباعها في جزء عصبي أو قوة دماغية كما قالوا به ، من انطباع الكبير في الصغير وهو محال ، ودفع الإشكال بأن المنطبع فيه ، منقسم إلى غير النهاية لا يجدي شيئاً ، فإن الكف لا تسع الجبل ، وإن كانت منقسمة إلى غير النهاية.

والجواب عنه أن الحق كما سيأتي ، أن الصور الإدراكية الجزئية غير مادية ، بل مجردة تجردا مثاليًّا ، فيها آثار المادة من مقدار وشكل وغيرهما ، دون نفس المادة ، فهي حاصلة للنفس في مرتبة تجرده المثالي ، من غير أن تنطبع في جزء بدني أو قوة متعلقة بجزء بدني.

وأما الأفعال والانفعالات الحاصلة في مرحلة المادة ، عند الإحساس بشيء أو عند تخيله ، فإنما هي معدات تتهيأ بها النفس ، لحصول الصور العلمية الجزئية المثالية عندها.

الإشكال السادس أن علماء الطبيعة بينوا ، أن الإحساس والتخيل بحصول صور الأجسام المادية ، بما لها من النسب والخصوصيات الخارجية ، في الأعضاء الحاسة وانتقالها إلى الدماغ ، مع ما لها من التصرف فيها بحسب طبائعها الخاصة ، والإنسان ينتقل إلى خصوصية ، مقاديرها وأبعادها وأشكالها بنوع من المقايسة ، بين أجزاء الصورة الحاصلة عنده ، على ما فصلوه في محله ، ومع ذلك لا مجال للقول ، بحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان.

والجواب عنه ، أن ما ذكروه من الفعل والانفعال المادي ، عند حصول العلم بالجزئيات في محله ، لكن هذه الصور المنطبعة ، المغايرة للمعلومات الخارجية ، ليست هي المعلومة بالذات ، بل هي معدات تهيىء النفس ، لحضور الماهيات الخارجية عندها ، بوجود مثالي غير مادي ، وإلا لزمت السفسطة لمكان المغايرة بين الصور ، الحاصلة في أعضاء الحس والتخيل وبين ذوات الصور.

بل هذا من أقوى الحجج على حصول الماهيات ، بأنفسها عند الإنسان بوجود غير مادي ، فإن الوجود المادي لها كيفما فرض ، لم يخل عن مغايرة ما بين الصور الحاصلة ، وبين الأمور الخارجية ذوات الصور ، ولازم ذلك السفسطة ضرورة.

الإشكال السابع ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، كون الشيء الواحد كليًّا وجزئيًّا معاً وبطلانه ظاهر ، بيان الملازمة أن ماهية الإنسان المعقولة مثلاً ، من حيث تجويز العقل صدقها على كثيرين كلية ، ومن حيث حصولها لنفس عاقلها الشخصية ، وقيامها بها جزئية متشخصة بتشخصها ، متميزة من ماهية الإنسان المعقولة ، لغير تلك النفس من النفوس ، فهي كلية وجزئية معاً.

والجواب عنه أن الجهة مختلفة ، فهي من حيث إنها وجود ذهني مقيس إلى الخارج كلية ، تقبل الصدق على كثيرين ، ومن حيث إنها كيفية نفسانية ، من غير مقايسة إلى الخارج جزئية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد