علمٌ وفكر

نقد الإيديولوجية الليبرالية (2)

 

آلان دي بينوا Alain de Benoist .. 
فلسفة تحقيق الذات
الحرية الليبرالية هي واقعاً قبل كل شيء، هي حرية التملّك؛ إنها لا تكمن في ما يكون المرء عليه، وإنما في ما يملكه. يعتبر الإنسان حرّاً بقدر ما يكون صاحب ملكية، ولا سيما ملكية ذاته أوّلاً. وهذه الفكرة المتمثلة في أن ملكية الذات هي المَعْلم الرئيسيّ للحرية سيتبناها لاحقاً ماركس [1].
بحسب تعريف آلان لوران، فإن تحقيق الذات هو عبارة عن «تقوقع وجودي يهدف بشكل رئيس إلى البحث عن السعادة الخاصة» [2]. أما بالنسبة إلى الكتاب الليبراليين، فإن «البحث عن السعادة» يعني الحرية الجامحة في البحث دوماً عن تحقيق المصلحة الفضلى قدر الإمكان. لكن سرعان ما نجد أنفسنا أمام مشكلة فهم ما يفترض أن تعنيه «المصلحة»، لا سيما وأن من يؤمنون ببديهية المصلحة نادراً ما يهتمون بالحديث عن نشوئها أو بوصف عناصرها. كذلك فإن هؤلاء لا يتساءلون عما إذا كان جميع الفاعلين الاجتماعيين تحرّكهم بالأساس مصالح متشابهة، أو ما إذا كانت مصالحهم متكافئة ومتطابقة إحداها مع الأخرى. لكن إن كان لا مناص لهم من تعريف المصلحة، فغالباً ما يكون هذا التعريف مبتذلاً، إذ تصبح «المصلحة» في نظرهم مرادفة لرغبة، أو مشروع، أو عمل موجّه نحو هدف معيّن، إلخ. كل شيء قد يتحوّل إلى «مصلحة»، فحتى الفعل الأكثر إيثاراً، والأكثر تجرّداً من المصلحة قد ينطوي في معناه على الأنانية والانتهازية بوصف كونه ردّاً على الرغبة الطوعية لدى صاحبه. لكن من الواضح أن المصلحة ـ بحسب تعريف الليبراليين ـ هي قبل كل شيء منفعة مادية يجب أن تكون محسوبة وقابلة للقياس إن كان لها أن تقدّر لما هي عليه، بمعنى أن يكون بالإمكان التعبير عنها في ضوء هذا النظير الكوني، ألا وهو المال.
لذلك، لا عجب أن يؤدي نشوء الفردانية الليبرالية بدايةً إلى تزحزح تدريجي لبنى الوجود العضوية التي تتصف بها المجتمعات الشمولية، ولاحقاً إلى تفكك معمم للروابط الاجتماعية، وأخيراً إلى حالة من التفسخ الاجتماعي النسبي، حيث أصبح الأفراد، وحتى الأعداء، متباعدين أكثر فأكثر ومنجرفين جميعهم بالتالي في هذه النسخة الجديدة من «حرب الجميع ضد الجميع» والمتمثلة في المنافسة المعمّمة. ذلك هو المجتمع في تصوّر دو توكفيل حيث كل فرد فيه «يقف على الحياد وأشبه بغريب في نظر الآخرين جميعهم». تميل الفردانية الليبرالية أينما وجدت إلى تدمير الاندماج المجتمعي المباشر الذي منع طويلاً ظهور الفرد العصري والهويات الجماعية المرتبطة به. في هذا الإطار، كتب بيار روزانفالون بأن «الليبرالية تجعل من عملية سلب العالم شخصيته شرطاً للتقدم والحرية» [3].
مع ذلك، تبدو الليبرالية ملزمة بالاعتراف بوجود الواقع الاجتماعي. لكن عوضاً عن التساؤل عن سبب وجود هذا الواقع الاجتماعي، ينشغل الليبراليون أكثر بمعرفة كيفية قيامه، واستمراره، وعمله. ففي النهاية، يشكل المجتمع بالنسبة إليهم، وبكل بساطة مجموع أفراده، والكل ما هو إلا مجموع أجزائه. فهو النتاج العرضي للإرادات الفردية، مجرد تجمّع لأفراد يسعون جميعهم إلى الدفاع عن مصالحهم الخاصة وتحقيقها. يقضي هدف المجتمع الأساسي إذن بتنظيم علاقات التبادل. يمكن رؤية هذا المجتمع إما كنتيجة لفعل طوعي عقلاني أولي (أو ما يسمّى وهم «العقد الاجتماعي») أو كنتيجة اللعبة الشاملة التي يشترك فيها إجمالي الأفعال الصادرة عن العناصر الفردية، لعبة تنظمها «اليد الخفية» للسوق التي «تولّد» الواقع الاجتماعي كنتيجة غير مقصودة للسلوكيات البشرية. لذلك، يستند الليبراليون في تحليلهم الواقع الاجتماعي إمّا إلى المقاربة التعاقدية (بحسب جون لوك)، أو إلى الاعتماد على «اليد الخفية» (بحسب آدم سميث)، أو حتى إلى فكرة نظام عفوي غير خاضع لأي غرض.
ولقد طوّر الليبراليون كامل فكرة التفوّق التنظيمي للسوق، التي يفترض أن تكون الوسيلة الأكثر فعاليةً، والأكثر عقلانيةً، وبالتالي الأكثر إنصافاً لتنسيق التبادلات. تبدو السوق، للوهلة الأولى، «تقنية تنظيمية» (على حد تعبير هنري لوباج) بشكل أساسي. أمّا من وجهة نظر اقتصادية، فهي المكان الفعلي لتبادل البضائع، وأيضاً الكيان الافتراضي الذي تتشكل فيه بطريقة مثلى شروط التبادل، أي تعديل العرض والطلب ومستوى الأسعار.

في المقابل، لا يتساءل الليبراليون حول مصدر السوق. فالتبادل التجاري بالنسبة إليهم هو فعليّاً النموذج «الطبيعي» للعلاقات الاجتماعية كافة، الأمر الذي يستنتج منه أن السوق هي أيضاً كيان «طبيعي» يطرح نظاماً سابقاً لأي مشاورة أو قرار. وبما أن السوق هي نموذج التبادل الأكثر انسجاماً مع الطبيعة البشرية، فإنها تعتبر موجودة منذ فجر التاريخ في المجتمعات كافة. يلاحظ ههنا ميل كل إيديولوجية إلى «تطبيع» افتراضاتها، أي إلى تقديم نفسها، ليس كما هي عليه أي بناء للروح البشرية، وإنما كمجرّد وصف للنظام الطبيعي، أو استنساخ له. وبما ان الدولة مرفوضة بالتزامن باعتبارها خدعة، فقد تطرح فكرة التنظيم «الطبيعي» للواقع الاجتماعي بواسطة السوق نفسها.
تفضي رؤية آدم سميث للأمّة كسوق إلى الفصل بشكل جوهري بين مفهوم المجال ومفهوم الإقليم. بخلاف العرف التجاري الذي كان لا يزال يميّز بين الإقليم السياسي والمجال الاقتصادي، يظهر سميث بأن السوق لا يمكن أن يكون بطبيعته منغلقاً ضمن حدود جغرافية معيّنة. فالسوق هو شبكة أكثر منه مكان، ومن المقدّر أن تمتد هذه الشبكة لتبلغ أطراف الأرض، ذلك أن ما يحدها في نهاية الأمر هو القدرة على التبادل فحسب. كتب سميث في إحدى فقراته الشهيرة بأن «التاجر ليس بالضرورة أن يكون من مواطني بلد دون غيره. فهو لا يبالي في أي مكان يقيم تجارته، ويكفيه أدنى شعور بالنفور حتى يقرر نقل رأسماله، ومعه كامل القطاع الذي يدعمه هذا الرأسمال، من بلد إلى آخر» [4]. تبرر هذه الأسطر النبوئية رأي بيار روزانفالون الذي يعتبر آدم سميث «أول المؤمنين المنطقيين بمبدإ الدولية». يضيف روزانفالون بأن «المجتمع المدني، الذي يصوّر كسوق غير مستقرة، يمتد ليشمل جميع البشر ويسمح لهم بتخطي الانقسامات الوطنية والعرقية».
من أبرز حسنات مفهوم السوق أنه يسمح لليبراليين بحل المسألة الصعبة حول كيفية جعل الواجب جزءاً من الميثاق الاجتماعي. يمكن اعتبار السوق بمثابة قانون يحكم النظام الاجتماعي من دون وجود مشرّع. تؤسس السوق، التي تحرّكها «اليد الخفية»، الحيادية بطبيعتها كونها غير متجسدة في أفراد ملموسين، نمطاً نظريّاً لتنظيم المجتمع بالاستناد إلى «قوانين» موضوعية تسمح بتنظيم العلاقات بين الأفراد دون أن تجمع بينهم أي علاقة مرؤوسية أو أمر. وهكذا على النظام الاقتصادي تأسيس النظام الاجتماعي، ذلك أن كلا النظامين ناشئ ولم يتأسَّس بعدُ. النظام الاقتصادي هو «النتيجة غير المقصودة وغير المرجوة لأفعال عدد كبير من الأشخاص المحفّزين بمصالحهم وحدها». هذه الفكرة، الذي تناولها هايك بإسهاب، مستوحاة من عبارة آدم فيرغوسون (1767) الذي أشار إلى وقائع اجتماعية «نابعة من فعل الإنسان، إنما ليس من رغبته».


نظرية «اليد الخفية»
من منّا لا يعرف استعارة «اليد الخفية» التي ابتكرها سميث: «الفرد الذي يبغي كسبه الخاص مدفوع بيد خفية للارتقاء بغاية لم تكن قط جزءاً من مراده» [5]. هذه الاستعارة أبعد من الملاحظة غير المجدية بمجملها والتي تفيد بأن نتائج أفعال البشر غالباً ما تكون مختلفة تماماً عن تلك التي توقعوها. ذلك ما يطلق عليه ماكس فيبر تسمية «تناقض النتائج». يضع سميث، من جهته، هذه الملاحظة ضمن إطار رؤية تفاؤلية بشكل حازم. يقول مضيفاً: «يبذل كل فرد دوماً كل ما في وسعه بحثاً عن التوظيف الأنفع لكامل الرأسمال الذي بين يديه؛ صحيح أنه يضع مصلحته الشخصية نصب عينيه، وليس مصلحة المجتمع، لكن العناية التي يوليها لمنفعته الشخصية تقوده بشكل طبيعي، أو بالأحرى ضروري، إلى اختيار نوع التوظيف الأنفع للمجتمع»، لا بل، «عبر السعي وراء مصلحته الشخصية، غالباً ما يعمل بفعالية أكبر من أجل مصلحة المجتمع منه مما إذا كان يهدف فعلاً إلى العمل من أجلها».

الدلالات اللاهوتية تظهر جليةً في هذه الاستعارة. «فـاليد الخفية» ما هي إلا تجسيد (دنيوي ـ عالَمَاني) للعناية الإلهية. يجب التأكيد أيضاً بأنه وبخلاف الاعتقاد السائد غالباً، لا يشبّه آدم سميث آلية السوق بحد ذاتها بلعبة «اليد الخفية» لأنه لا يستخدم الأخيرة إلا لوصف المحصلة النهائية لمجمع التبادلات التجارية، ناهيك عن أن سميث لا يزال يقر بشرعية تدخل القطاع العام عندما تعجز المشاريع الفردية وحدها عن تحقيق الخير العام. لكن هذا القيد سيتبدد قريباً. يختلف الليبراليون الجدد اليوم حول مفهوم الخير العام بحد ذاته. يمنع هايك بالمبدإ أي مقاربة شاملة للمجتمع: فما من مؤسسة، أو سلطة سياسية يجب أن تضع لنفسها أهدافاً قد تشكك في حسن سير «النظام العفوي». من هذا المنطلق، يجمع معظم الليبراليين على أن الدور الوحيد الواجب على الدولة هو بتهيئة الظروف الضرورية للسماح للعقلانية الاقتصادية بالتحرّك بحرية في السوق. لا يمكن للدولة أن تضع أهدافاً خاصة بها، فهي وجدت لضمان الحقوق الفردية، وحرية التبادلات، واحترام القوانين. يجب أن تبقى في المجالات الأخرى كافة حيادية وأن تتخلى عن اقتراح نموذج لـ «رغد العيش» [6] ، كونها تتمتع برخص أكثر منه بصلاحيات.
إن نتائج نظرية «اليد الخفية» حاسمة هنا، ولا سيما على الصعيد الأخلاقي. يعيد آدم سميث، في بعض الفقرات، الاعتبار للسلوكيات التي لطالما استُنكِرَت في القرون الماضية. فعبر التأكيد على أن مصلحة المجتمع خاضعة لمصلحة الأفراد الاقتصادية، يجعل سميث من الأنانية الطريقة الفضلى لخدمة الآخر. فعندما نسعى إلى تعزيز مصلحتنا الشخصية إلى أقصى الحدود، فنحن بذلك نعمل من غير دراية، ودونما رغبة منا، من أجل مصلحة الجميع. تسمح المواجهة الحرة في السوق بين المصالح الأنانية «بشكل طبيعي أو بالأحرى ضروري»، بالمواءمة بينها بفعل «اليد الخفية» التي تجعلها تساهم في الخير الاجتماعي. لذلك ليس في السعي وراء المصلحة الشخصية أولاً ما ينافي الأخلاق. ذلك لأن التصرّف الأناني لكل منّا سيؤدي في نهاية المطاف وبالصدفة إلى تحقيق مصلحة الجميع. وهو ما لخصه فريدريك باستيا في عبارة واحدة: «من يعمل لأجل نفسه يعمل لأجل الجميع» [7]. في النهاية، الأنانية ما هي إلا إيثار بكل معنى الكلمة، وسلوكيات السلطات العامة هي التي تستحق على العكس الاستنكار لكونها «غير أخلاقية» في كل مرة تتعارض فيها، باسم التضامن، مع حق الأفراد في العمل من أجل مصلحتهم الخاصة.
الى ذلك، تربط الليبرالية بين الفردانية والسوق من خلال التأكيد على أن حرية عمل الأخيرة تكفل أيضاً الحرية الفردية. كما تضمن السوق، عبر تأمينها أفضل مردود من التبادلات، استقلالية كل عنصر. في الحالة المثالية، في حال لم يظهر ما يعيق سير عمل السوق، يجري هذا التوافق بطريقة مثلى متيحاً بذلك تحقيق جملة من التوازنات الجزئية التي تساهم في التوازن العام. تشكّل السوق، التي يطلق عليها هايك اسم catallax، نظاماً عفويّاً ومجرَّداً يمثل الدعامة الفعالة الرسمية لممارسة الحرية الخاصة. لا تستجيب السوق فحسب لمثال اقتصادي من الأمثلية فحسب، وإنما أيضاً لكل ما يطمح إليه الأفراد الذين يُعتَبَرون مواضيع عامة للحرية. في النهاية، ثمّة التباس بين السوق والعدالة نفسها، الأمر الذي يدفع بهايك (Hayek) إلى تعريفها على أنها «لعبة تزداد فيها فرص جميع اللاعبين»، مضيفاً بعدها أنه في هذه الظروف، لا ينصح الخاسرون بالشكوى لأن اللوم يقع عليهم وحدهم. وأخيراً، السوق تسعى إلى المصالحة في جوهرها، ذلك لأنها قائمة على مبدإ «التجارة اللطيفة» وتستبدل مبدإ التفاوض بمبدإ الصراع، وتقضي بذلك على الخصومة والحسد.
يشار إلى أن هايك (Hayek) يعيد صياغة نظرية «اليد الخفية» في عبارات «ثورية». وبالفعل، يخالف هايك(Hayek) أنواع المنطق الديكارتي كافة، منها العقد الاجتماعي الذي يتضمّن التعارض، النموذجي منذ عصر هوبز(Hobbes)، بين حالة الطبيعة والمجتمع السياسي. في المقابل، يشيد دايفيد هيوم(David Hume) بالعرف والعادات التي يضعها في مواجهة كل «بنائية»؛ إلاّ أنه يؤكّد في الوقت عينه بأن العرف يختار قواعد السلوك الأكثر فعالية وعقلانية، أي تلك التي تستند إلى القيم التجارية، التي باعتمادها يتمّ رفض النظام القبلي للمجتمع القديم. لهذا السبب عندما يتحدث عن «التقاليد»، ينتقد القيم التقليدية ويدين بشدّة كل رؤية مجتمعية عضوية. بالنسبة إلى هايك، تستمدّ قيمة التقاليد في المقام الأول من كلّ شيء عفوي، ومجرّد، وغير شخصي، وبالتالي غير مناسب. هذا هو الطابع الانتقائي للعادات الذي يفسّر سبب فرض السوق تدريجيّاً. وبالتالي يعتقد هايك(Hayek) بأن أي أمر عفوي هو في الأساس صحيح، كما يؤكد داروين(Darwin) أن الناجين من «الكفاح من أجل البقاء» هم حتماً الأفضل. وهكذا يشكّل طلب السوق نظاماً اجتماعياً يحظر، من حيث التعريف، أي محاولة لإصلاحه.

من هنا نجد بأنّ مفهوم السوق، بالنسبة إلى الليبراليين، يتخطّى إلى حد كبير المجال الاقتصادي البحت، فهي أكثر من مجرّد آلية لتوزيع الموارد النادرة بالشكل الأمثل، أو منظومة لتنظيم مسارات الإنتاج والاستهلاك. تعبّر السوق قبل كلّ شيء عن مفهوم اجتماعيّ وسياسيّ. وبقدر ما جعل آدم سميث(Adam Smith) من السوق العامل الرئيس المشغّل للنظام الاجتماعي، فقد دفعه ذلك إلى تصّور علاقات إنسانية على أساس النموذج الاقتصادي، أي العلاقات بين البضائع. وبالتالي، فإن اقتصاد السوق يؤدي بطبيعة الحال إلى مجتمع السوق. في هذا المجال، يقول بيار روزانفالون (Pierre Rasanvallon) «إن السوق هي في المقام الأول وسيلة لتمثيل الفضاء الاجتماعي وتنظيمه، قبل اعتبارها آليّة لامركزيّة لتنظيم النشاطات الاقتصادية عبر نظام التسعير» [8].
بحسب آدم سميث(Adam Smith)، التبادل المعمّم هو النتيجة المباشرة لتقسيم العمل: «وهكذا يعيش الجميع من خلال التبادل، أو يصبحون إلى حدّ ما تجّاراً، فيتطوّر المجتمع بحدّ ذاته ليصبح مجتمعاً تجاريّاً بكل ما للكلمة من معنى» [9]. وبالتالي، فإن السوق، من المنظور الليبرالي، هي النموذج المهيمن في مجتمع يعرّف نفسه على أنه مجتمع السوق. أمّا المجتمع الليبرالي فهو المكان الذي تحصل فيه التبادلات المنفعية بواسطة الأفراد والمجموعات المنساقين جميعاً لرغبتهم في تحقيق مصلحتهم الذاتية إلى أقصى الحدود. يكون الفرد المنتمي إلى هذا المجتمع، حيث كلّ شيء يمكن أن يُباع ويُشترى، إمّا تاجراً، أو مالكاً، أو منتجاً، وفي جميع الحالات مستهلكاً. يقول بيار روزانفالون(Pierre Rasanvallon): «إن الحقوق الأسمى للمستهلكين هي بالنسبة إلى سميث كما الإرادة العامة بالنسبة إلى روسو(Rousseau)»
اتّسع التحليل الاقتصادي الليبرالي، في العصر الحديث، تدريجيّاً ليشمل الأحداث الاجتماعية كافة. فشُبّهت العائلة بشركة صغيرة، والعلاقات الاجتماعية بشبكة من الاستراتيجيات النفعية المتزاحمة، والحياة السياسية بسوق يبيع فيها الناخبون أصواتهم على من يعرض الثمن الأعلى. كذلك، يُنظر إلى الإِنسان على أنه رأس مال، وإلى الطفل كسلعة استهلاكية مستديمة. وهكذا انعكس المنطق الاقتصادي على الكلّ الاجتماعي، الذي كان مدمجاً به في السابق، إلى أن شمله كليّاً. وقد جاء على لسان جيرالد برتهود (Gerald Berthoud): «يمكن فهم المجتمع انطلاقاً من نظرية جازمة للعمل الهادف. وبالتالي، فإنّ العلاقة بين التكاليف والأرباح هي المبدأ الذي يحكم العالم» [10]. فيصبح كل شيء عاملاً من عوامل الإنتاج والاستهلاك؛ وكلّ شيء يفترض أن ينتج عن التعديل التلقائي للعرض والطلب؛ وكل شيء يعادل قيمته التبادلية نسبةً إلى سعره. في موازاة ذلك، يُعدّ كلّ ما لا يمكن التعبير عنه بعبارات قياسية وحسابية عديم الأهميّة أو غير واقعي. يتّضح بالتالي أن الخطاب الاقتصادي يجسّد بعمق الممارسات الاجتماعية والثقافية، البعيدة كلّ البعد عن أي قيمة لا يمكن قياسها من حيث الثمن. فهو يختصر جميع الحقائق الاجتماعية بعالمٍ من الأشياء القابلة للقياس، محوّلاً، في نهاية الأمر، الأشخاص أنفسهم إلى أشياء قابلة للمعاوضة والمبادلة مقابل المال.
ينتج عن هذا التمثيل الاقتصادي البحت للمجتمع عواقب خطيرة، تؤدي إلى تفكّك الشعوب وتآكل خصائصها المميزة بشكل منهجي عبر إتمام عمليّة العلمنة والتحرّر من أوهام عالم الحداثة. يؤدي تقبّل التبادل التجاري، من الناحية الاجتماعية، إلى تقسيم المجتمع إلى منتجين، ومالكين، وطبقات عقيمة، كالطبقة الأرستقراطية سابقاً، من خلال عملية ثورية بارزة أثنى عليها كثيرون بمن فيهم كارل ماركس (Karl Marx). على صعيد المخيلة المشتركة، يؤدي هذا التقبل إلى انقلاب القيم بشكل كامل وذلك عبر رفع قيم تجارية إلى القمة بعد أن كانت منذ الأزل ذات قيمة دنيا بامتياز باعتبارها من الضروريات. أمّا على المستوى الأخلاقي، فإنّه يُجدد روحَ حسابات المصلحة الذاتية والسلوك الأناني اللذين طالما أدانهما المجتمع التقليدي.
ــــــــــ

[1] لا يؤيد ماركس الآلية الإيديولوجية الليبرالية التي منحها قيمة معرفية أساسية فحسب، لكنه يتقيّد بماورائيات الفرد التي جعلت ميشال هنري يرى فيه «أحد المفكرين المسيحيين البارزين في الغرب» (ماركس، دار غاليمار، المجلّد الثاني، ص. 445). نشأ واقع الفردية الماركسية، متخطياً واجهته الجماعية، على يد العديد من الكتاب بدءاً من لويس دومون. يقول بيار روزانفالون: «يمكن فهم فلسفة ماركس بأكملها على أنها محاولة لتعزيز الفردانية الحديثة (...) ما من معنى لمفهوم الصراع الطبقي نفسه خارج إطار التمثيل الفردي في المجتمع. في المقابل، ليس له أي دلالة في مجتمع تقليدي، «. (الليبرالية الاقتصادية: تاريخ فكرة السوق Le libéralisme économique: Histoire de l’idée du marché، سوي بوان للنشر، 1989، ص. 188ـ189). رفض ماركس وهم «الرجل ذو الوعي الاقتصادي» Homo economicus الذي ظهر اعتباراً من القرن الثامن عشر لمجرد أن استخدمته لإبعاد الفرد الحقيقي ودمجه بوجود يقتصر على دائرة المصلحة الذاتية فحسب؛ فالمصلحة الذاتية، بالنسبة إلى ماركس، هي مجرد تعبير عن الفصل بين الفرد وحياته. (ذلك هو أساس الجزء الأفضل من عمله، لا سيما نقده «تجسيد» العلاقات الاجتماعية). لكنه لا ينوي البتّة إبدال المصلحة الخاصة بالصالح العام. فهو لا يعترف حتى بالمصالح الطبقية.
[2] «الفردانية: دراسة حول عودة الفرد» De l’individualisme. Enquête sur le retour de l’individu ، المنشورات الجامعيّة الفرنسيّة، 1985، ص. 16.
[3] مرجع مذكور، ص. 7.
[4] التحقيق في طبيعة وأسباب ثورة الأمم، (Recherche sur la nature et les causes de la richesse des nations) غارنييه فلاماريون للنشر، 1991، المجلّد الأول، الكتاب III، الفصل الرابع.
[5] نفسه، الجزء الأول، الكتاب I.
[6] هذا هو الموقف الليبرالي الأكثر تداولاً في ما يتعلق بدور الدولة. فالمؤمنون بالحريات الشخصية التابعون لما يُعرف بـالـ «لاسلطوية الرأسمالية» يذهبون أبعد من ذلك، لأنهم يرفضون حتى «دولة الحد الأدنى» التي يقترحها روبرت نوزيك(Robert Nozick). فبالنسبة إليهم، الدولة هي حكماً «لص» إذ إنها لا تنتج رأس المال، بل تستهلك الأعمال.
[7] «الموافَقَات الاقتصاديّة» ، Harmonies économiques ، 1851، أطروحة شائعة يؤيدها ماندفيل(Mandeville) في كتابه «أمثولة النحل: الرذائل الخاصة والفضيلة العامة» fable des abeilles: Vices privés، vertu publique.
[8] مرجع مذكور، ص. 124.
[9] مرجع مذكور، الجزء الأول، ص. 92.
[10] «نحو أنثروبولوجيا عامة: الحداثة والغيرية» Vers une anthropologie générale. Modernité et altérité، دروز، جنيف 1992، ص. 57.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد