علمٌ وفكر

نقد الإيديولوجية الليبرالية (4)

آلان دي بينوا Alain de Benoist ..
الليبرالية تكره دولة الرفاه

استفحل التمييز بين العام والخاص، وبين الدولة والمجتمع المدني، خلال القرن التاسع عشر، معمِّماً وجهة نظر ثنائية ومتناقضة للفضاء الاجتماعي. ومنذ ذلك الحين، أسست الليبرالية، بعد أن تعاظمت قوتها، لمجتمع مدني يعرّف من خلال المجال الخاص فحسب، وأدانت تأثير القطاع العام المهيمن، فصارت تطالب بوضع حدّ للاحتكار الذي تمارسه الدولة على تلبية الاحتياجات الجماعية، وبتوسيع أساليب التنظيم التجارية بين المجتمعات. وهكذا، أخذ المجتمع المدني بعداً أسطوريّاً بامتياز. فبدا كقوة إيديولوجية أكثر منه كواقع محدّد المعالم لأن معناه بات يتضح أكثر فأكثر من خلال مقارنته بالدولة، إذ إنّ تعريفه الضبابي جاء من خلال ما انتزع نظريّاً من الدولة.
مع ذلك، في نهاية القرن التاسع عشر، كان لا بدّ من إدخال تعديلات على المنطق الاقتصادي البحت لتنظيم المجتمع وتكاثره. فنتجت هذه التعديلات عن التناقضات الداخلية للتكوين الاجتماعي الجديد أكثر منه عن المقاومة المحافظة. نشأ علم الاجتماع بحد ذاته نتيجة مقاومة للمجتمع الحقيقي للتغييرات السياسية والمؤسساتية، على هامش المطالبة بنظام طبيعي للتنديد بالطابع الرسمي والصناعي لنمط النظام الاجتماعي الجديد. ولّد صعود الفردانيّة، بالنسبة إلى علماء الاجتماع الأوائل، خوفاً مزدوجاً: الخوف من الفوضويّة الناجم عن تفكّك الروابط الاجتماعيّة، بحسب دوركهايم(Durkheim)، والخوف من المجموعات المكوَّنة من أفراد تفكّكوا ثمّ جُمعوا فجأة في كتلة خارجة عن السيطرة، بحسب غوستاف لوبون(Gustave Le Bon) أو غبريال تارد(Gabreil Tarde) اللذين يعزوان تحليل الوقائع الاجتماعية إلى علم النفس. يجد الخوف الأوّل صدًى لدى المفكّرين المعارضين للثورة بشكل خاص، أما الثاني فتلحظه أساساً البرجوازية المعنية في المقام الأول بحماية نفسها من «الطبقات الخطرة».
بينما أنشأت الدولةُ الأمةُ السوقَ ودعمتها، نما العداء بين الليبرالية والقطاع العام. فالليبراليون لا يَكُفُّون البتّة عن مهاجمة دولة الرفاه من دون أن يدركوا أنها امتداد دقيق للسوق التي تستوجب تدخّلات متزايدة من قبل الدولة. فالشخص الذي يخضع عمله للعبة السوق فحسب سريع العطب، لأنه قد لا يجد من يعرض عليه عمله أو قد لا يكون لعمله هذا أي قيمة تذكر. علاوة على ذلك، دمّرت الفردانية الحديثة علاقات الجوار العضوية التي كانت في الأساس علاقات مبنية على المساعدة والتضامن المتبادلين، الأمر الذي أدى إلى تدمير أشكال الحماية الاجتماعية السابقة. من ناحية أخرى، بالرغم من أن السوق تنظم عملية العرض والطلب، إلا أنها لا تنظم العلاقات الاجتماعية، لا بل تسبب الفوضى فيها لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار الطلبات التي لا يمكن للمرء تسديد ثمنها. لذلك أصبح نشوء دولة الرفاه أمراً ضروريّاً بما أنها القوة الوحيدة القادرة على تصحيح الاختلالات الصارخة والحد من الضائقات الجلية. لهذا السبب، وعلى حد قول كارل بولاني، في كل مرّة بدت فيها الليبرالية منتصرة، كان ذلك للمفارقة بفضل تدخلات الدولة التي اقتضتها الأضرار التي لحقت بالنسيج الاجتماعي نتيجة منطق السوق. في المقابل، يرى ألان كاييه أنّه «من دون السلام الاجتماعي النسبي في دولة الرفاه، لكان نظام السوق اجتيح بالكامل» [1]. ميّز هذا التعاضد بين السوق والدولة النظام الفوردي لفترة طويلة، وما زال على بعض الأصعدة. أمّا بولاني فيخلص إلى أنّ «الحماية الاجتماعية هي الملازمة الحتمية للسوق ذاتية التنظيم» [2].

تلعب دولة الرفاه بطريقة ما دوراً في الحد من توجه الحياة الاجتماعية نحو السوق، حيث إن تدخلاتها تهدف إلى التعويض عن الآثار المدمّرة للسوق. مع ذلك، لا يمكنها أن تحلّ تماماً محلّ أشكال حماية المجتمع التي تلاشت نتيجة التطور الصناعي، ونشوء الفردانية، وتوسّع السوق. بالمقارنة مع أشكال الحماية الاجتماعية السابقة هذه، لدولة الرفاه سيئاتٌ بقدر ما لها من حسنات. ففي حين قامت أشكال التضامن القديمة على تبادل الخدمات المشتركة، حيث يتشاطر الجميع المسؤولية، تشجّع دولة الرفاه على اللامسؤولية، وتحوّل المواطنين إلى اتّكاليين. وفي حين كانت أشكال التضامن السابقة تقع ضمن شبكة من العلاقات الماديّة، تظهر دولة الرفاه كآلة مجرّدة، ومجهولة، ومعزولة يتوقع المرء منها أن تقدّم له كلّ ما يريد دون أن يتوجّب عليه شيء تجاهها. والحال أنّ إبدال نظام تضامن قديم وفوري بنظام تضامن مُجرَّد وخارجي ومبهم، لم يوّلِد شعوراً بالرضا، لا بل كان السبب وراء الأزمة الحالية في دولة الرفاه التي يقدر لها، بحكم طبيعتها، ألا تطبق سوى نظام تضامن غير فعّال اقتصاديّاً لأنه لا يتكيّف مع المجتمع. يقول برنارد إنجولراس(Bernard Enjolras): «لتجاوز الأزمة الداخلية في دولة الرفاه، يتطلّب ذلك إعادة اكتشاف الشروط التي تحقق تضامن جوار، وهي نفسها الشروط لإعادة تشكيل الرابط الاقتصادي لإعادة التزامن بين إنتاج الثروة وإنتاج الواقع الاجتماعي» [3].
يقول بيغي(Peguy)، من جهته: «إن انحطاط العالم المعاصر، أي انخفاض المعايير، وتردي القيم، يأتي من رؤية العالم المعاصر إلى القيم على أنها قابلة للتداول بخلاف العالمين القديم والمسيحي» [4]. تتحمّل الأيديولوجية الليبرالية مسؤولية كبرى تجاه هذا الانحطاط كون الليبرالية تستند إلى أنثروبولوجيا غير واقعية تنطوي على سلسلة من الاستنتاجات الخاطئة.
تعتبر فكرة أن الإنسان يتصرّف بحريّة وعقلانية في السوق مجرّد مسلَّمة وهميّة، حيث إن الحقائق الاقتصادية لا تتمتّع بأي استقلالية وإنما ترتبط بسياق اجتماعي وثقافي معيّن. إلى ذلك، لا يوجد عقلانية اقتصادية فطرية، بل هي نتاج تطور تاريخي اجتماعي واضح المعالم. من ناحية أخرى، لا يمثّل التبادل التجاري الشكل الطبيعي للعلاقات الاجتماعية، ولا حتى العلاقات الاقتصادية. فالسوق ليست ظاهرة عالمية، بل هي ذات إطار محلي حيث إنها لا يمكن أن تحقّق التنظيم الأمثل للعرض والطلب لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار إلاّ العروض المقتدِرة. أما المجتمع فلا ينحصر أبداً بمكونّاته الفردية، تماماً كما لا تنحصر الطبقة الاجتماعية أبداً بالعناصر التي تتكوّن منها، لأنّ الطبقة هي التي تشكل العناصر على هذا النحو وبالتالي فهي مختلفة عن العناصر من الناحية المنطقية والهرمية، بحسب ما تبيّنه نظرية راسل(Russel) حول الأنواع المنطقية القائلة أنّ الطبقة الاجتماعية لا يمكن أن تكون فرداً من نفسها، كما لا يمكن لأي فرد فيها أن يشكّل منفرداً طبقة اجتماعية. في النهاية، فإن التصوّر المجرّد لفردٍ لا مبالٍ خارج عن السياق الاجتماعي، ويتصرّف تبعاً لتوقّعات عقلانيّة تماماً، ويختار هويته بحريّة من لا شيء هو رؤية مستحيلة. على العكس، لقد أظهر أصحاب النظريات المجتمعية وشبه المجتمعية، مثل ألاسدير ماسينتاير (Alasdair Macintyre)ومايكل سانديل(Mickael Sandel)، الأهميّة الحيويّة بأن يكون للأفراد مجتمع يشكّل حتماً الأفق الذي يتطلّعون إليه أو معرفتهم الإنسانية، ولو لتشكيل صورة نقدية عنه، وذلك من أجل بناء هويّتهم وتحقيق أهدافهم. وبالتالي، الصالح العام هو المبدأ الجوهري الذي يحدّد أسلوب عيش المجتمع وبالتالي هويّته الجماعية.
تتمخض الأزمة الحالية برمتّها عن التناقض الذي تفاقم بين مثال الشخص الكوني المعنوي مع ما يلازمه من تجزئة طبيعية للعلاقات الاجتماعية كافة وتجريدها من إنسانيتها، وحقيقة الشخص الملموس الذي من أجله تبقى الروابط الاجتماعية قائمة على الروابط العاطفية وعلاقات الجوار، مع ما يرافقها من تماسك، وتوافق، والتزامات متبادلة.

برأي الكتّاب الليبراليبن، يمكن للمجتمع أن يقوم على قيم الفردانية وقيم السوق، إلاّ أن ذلك مجرّد وهم. فالفردانية لم تكن ولن تكون يوماً المبدأ الوحيد للسلوك الاجتماعي، وثمة أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الفردانية لا يمكن أن تتجلى إلا بقدر ما يظل المجتمع إلى حدّ ما شموليّاً. يقول لويس ديمون(Louis Dumont) «لا يمكن للفردانية أن تحلّ كليّاً محلّ الشموليّة وأن تسيطر على كامل المجتمع... كذلك، لا يمكنها الاستمرار بمنأى عن مساهمة الشمولية في حياتها بشكل غير مباشر وخفيّ إلى حدّ ما». أضف إلى ذلك أن الفردانية هي التي تمنح الإيديولوجيا الليبرالية بعدها الخيالي؛ وبالتالي، من الخطأ النظر إلى الشمولية على أنها إرث من الماضي محكوم بالزوال. ويبقى الإنسان كائناً اجتماعيّاً حتى في عصر الفردانية الحديثة. وتظهر الشمولية مجدداً، في اللحظة التي يُقَرُّ فيها بوجود مصلحة عامة تطغى على المصالح الخاصة، في مقابل النظرية الليبرالية للانسجام الطبيعي للمصالح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
 [1] مرجع مذكور، 332.
[2] مرجع مذكور، 265.
[3] «أزمة دولة الرفاه، علاقات اجتماعية وجمعيات: عناصر لاقتصاد اجتماعي نقدي»، Crise de l’EtatـProvidence، lien social et associations: éléments pour une socioـéconomie critique، مجلّة MAUSS، الأول من أيلول 1998، ص.223.

[4] «مذكرة مشتركة عن م. ديكارت»، Note conjointe sur M. Descartes، غاليمار.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد