علمٌ وفكر

التوحيد والفطرة

 

الإمام الخميني (قدس سره) .. 

معنى الفطرة:
اعلم أن المقصود من: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ هو الحال والكيفية التي خلق الناس وهم متّصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم. ولذلك «تخمّرت» طينتهم بها في أصل الخلق. والفطرة الإلهية كما سيتبيّن فيما بعد من الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات، إذ إن الموجودات الأخرى غير الإنسان إمّا أنها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة وإما أن لها حظاً ضئيلاً منها.
وهنا لا بُدَّ من معرفة أن الفطرة، وإن فسرت في هذا الحديث (١) الشريف وغيره من الأحاديث بالتوحيد، إلاّ أن هذا هو من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشرف أجزاء الشيء، كأكثر التفاسير الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وفي كل مرة تفسر بمصداق جديد بحسب مقتضى المناسبة، فيحسب الجاهل أن هناك تعارضاً. والدليل على أن المقام كذلك هو أن الآية الشريفة تعتبر «الدين» هو «فطرة الله» مع أن الدين يشمل التوحيد والمبادىء الأخرى.
وفي صحيحة عبد الله بن سنان فسرت الفطرة على أنها تعني «الإسلام». وفي حسنة زرارة فسرت بالمعرفة، وفي الحديث المعروف: «كلّ ُ مولودٍ يولَدُ على الفِطْرَةِ» جاءت في قبال «التهوّد» و«التنصّر» و«التمجّس». كما أن الإمام الباقر (عليه السلام) في حسنة زرارة المذكورة فسّرها بالمعرفة. وعليه، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد، بل إن جميع المبادىء الحقة هي من الأمور التي فَطَرَ الله تعالى الإنسان عليها.

في تحديد أحكام الفطرة:
لا بُدَّ أن نعرف بأن ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان. من ناحية أنها من لوازم الوجود وقد تخمّرت في أصل الطبيعة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي، مجمعون على ذلك. وليس ثمّة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلّل إليها والإخلال بها. إن اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات، التي توجب وتسبّب الخلاف والاختلاف في كل شيء، حتى في الأحكام العقلية، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأمور الفطرية، كما إن اختلاف الإدراك والأفهام قوة وضعفاً لا تؤثر فيها. وإذا لم يكن الشيء بتلك الكيفية فليس من أحكام الفطرة ويجب إخراجه من فصيلة الأمور الفطرية. ولذلك تقول الآية: ﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (٢). أي أنها لا تختص بفئة خاصة ولا طائفة من الناس. ويقول تعالى أيضاً: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ (٣)، أي لا يغيّره شيء، كما هو شأن الأمور الأخرى التي تختلف بتأثير العادات وغيرها.
ولكن مما يثير الدهشة والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية، من أول العالم إلى آخره، فإن الناس يكادون أن يكونوا غافلين عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون، ما لم ينبههم أحد على ذلك، وعند ذلك يدركون أنهم كانوا متفقين رغم اختلافهم في الظاهر كما سيتضح ذلك فيما يأتي من البحث إن شاء الله. وهذا ما تشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٤).
فيتضح مما سبق ذكره أن أحكام الفطرة أكثر بداهة من كل أمر بديهي. إذ لا يوجد في جميع الأحكام العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا. وعلى هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أن لوازمها أيضاً يجب أن تكون من أوضح الضروريات. فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف من أحكام الفطرة أو من لوازمها، وجب أن يكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

الدين من الفطرة:
اعلم أن المفسرين، من العامة والخاصة، فسّروا كلٌ على طريقته، كيفية كون الدين أو التوحيد من الفطرة. ولكننا في هذه الوريقات لا نجري مجراهم وإنما نستفيد في هذا المقام من آراء الشيخ العارف الكامل (الشاه ابادي) الذي هو نسيج وحده في هذا الميدان. فقد أشار أن بعضها قد ورد بصورة الإشارة والرمز في بعض كتب المحققين من أهل المعارف، وبعضها الآخر مما خطر في فكري القاصر.
إذاً، لا بُدَّ أن نعرف أن من أنواع الفطرة الإلهية ما يكون على «أصل وجود المبدأ» تعالى وتقدس ومنها الفطرة على «التوحيد» وأخرى على «استجماع ذات الله المقدسة لجميع الكمالات» وأخرى على «المعاد ويوم القيامة» وأخرى على «النبوة» و«وجود الملائكة والروحانيين وإنزال الكتب وإعلان طريق الهداية». وهذه الأمور بعضها من الفطرة، وبعضها من لوازم الفطرة. فالإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة، هو الدين القيّم المحكم والمستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية. ولسوف نشير إلى بعض منها مما يتناسب والحديث الشريف، طالبين التوفيق من الحق تعالى (٥).

ـــــــــــــــ
(1) - عن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله: «فطرت الله التي فطر الناس عليها» قال: فطروا على التوحيد.
(2) - سورة الروم، الآية: ٣٠.
(3) - سورة الروم، الآية: ٣٠.

(4) - سورة الروم، الآية: ٣٠.
(5) - كتاب: التوحيد والفطرة، للإمام الخميني (قدس سره).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد