علمٌ وفكر

مبدأ التوسل في الفكر الإمامي (1)

 

السيد منير الخباز
هناك شبهة تطرحها بعض الأقلام الإسلامية ومضمون هذه الشبهة أن العلاقة على قسمين: علاقة انتماء، وعلاقة توسيط. علاقة الانتماء هي علاقة أبناء المذاهب الإسلامية بأئمتهم، يعني أبناء المذهب الحنبلي مثلاً أو أبناء المذهب الشافعي مثلاً ما هي علاقتهم بإمامهم الشافعي؟ علاقتهم بإمامهم علاقة المتعلم بالمعلم، علاقة التلميذ بالأستاذ، فهذه علاقة معقولة ليس فيها محذور، لا محذور عقلي، ولا محذور نقلي، علاقة أبناء المذاهب الإسلامية بأئمتهم علاقة صحيحة.


بينما عندما نأتي لعلاقة الشيعة بأئمتهم، علاقة الإمامية بأئمتهم الاثني عشر، هذه ليست علاقة تلميذ بأستاذ، ليست علاقة متعلم بمعلم، بل هي علاقة توسيط، يعني الإمامية يعتبرون أئمتهم ليسوا مجرد معلمين، لا، يعتبرون أئمتهم وسائط بينهم وبين الله، يعتبرون وسائط بين المخلوق وبين الخالق، إذن هذه العلاقة تختلف عن علاقة المذاهب الإسلامية بأئمتهم «بأئمة المذاهب الأربعة»، علاقة الإمامية بأئمتهم علاقة توسيط، وهذه العلاقة مصادمة للعقل ومصادمة للنقل، لماذا؟
أما أنها مصادمة للعقل لأن العقل عندما يتأمل يرى أن لا حاجة للواسطة، يعني الإنسان لا يحتاج إلى الواسطة بينه وبين ربه، الله أقرب إلى الإنسان من أي شيء آخر ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، إذا كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد إذن لا نحتاج واسطة بيننا وبينه، إذن لا نحتاج إلى محطة بيننا وبينه، مباشرة نتعلق به، مباشرة نرتبط به، لا حاجة إلى الوساطة، وجود الواسطة كما ترى الإمامية وجود يصطدم مع العقل.


ويصطدم مع النقل أيضًا، يعني القرآن الكريم أيضًا يندد بهذه العلاقة، علاقة التوسيط، لاحظ القرآن الكريم يتحدث عن أهل الجاهلية، الجاهلية كانوا يعبدون هبل واللات والعزى ويقولون كما ينقل القرآن عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾، يعني هذه الأصنام وسائط بيننا وبين الله، هذا نفسه منطق الإمامية، منطق الإمامية هو منطق الجاهلية، منطق الإمامية هو منطق المشركين في الجاهلية، المشركون في الجاهلية يقولون: ما نعبدهم إلا لأنهم وسائط، إلا لأنهم يقربونا إلى الله زلفى، والإمامية تطرح هذا المنطق كله، أننا نعتبر أهل البيت وسائط بيننا وبين الله، تقربنا إلى الله تبارك وتعالى.
إذن علاقة التوسيط التي يراها الإمامية ويبنون عليها أمورهم، هذه العلاقة مرفوضة عقلاً ونقلاً كما ذكرنا، هذه هي الشبهة، نحن كيف نجيب عن هذه الشبهة؟ لأجل الإجابة عن هذه الشبهة نتعرض لعدة محاور:

المحور الأول: تحليل التوسل فلسفيًا.
الفكر الشيعي هو فكر فلسفي، ليس فكرًا مبنيًا على مجرد روايات أو آيات فقط، هو فكر مبني على أصول فلسفية عقلية متينة محكمة، لذلك لا بد من أن نرجع إلى ما يطرحه الفلاسفة، الفلاسفة ماذا يقولون؟ الفلاسفة يقولون: العلة لها أجزاء ثلاثة: مقتض، وشرط، وعدم المانع.
مثلاً: النار عندما يقترب منها الجسم تحرقه، النار علة لإحراق الجسم، هل النار وحدها تحرق الجسم؟ لا، هناك أجزاء ثلاثة شاركت وساهمت في عملية الإحراق: الجزء الأول: النار، وتسمى المقتضي، يعني هي مصدر الإحراق، لأنها تحمل في باطنها درجة عالية من الحرارة، هذه الدرجة تقتضي احتراق الجسم المقترب منها، فالجزء الأول من العلة هو المقتضي، يعني النار منها المقتضي يتحقق. الجزء الثاني: الشرط، ما هو الشرط؟ الاقتراب، لو لم يقترب الجسم من النار هل يمكن للنار أن تحرقه؟ لا، إذن لا بد من الاقتراب، هذا الاقتراب شرط مساهم في عملية الإحراق. الجزء الثالث: عدم المانع، يعني ماذا عدم المانع؟ يعني ألا يكون على الجسم مانع يمنع من وصول حرارة النار إليه، لو كان على الجسم بلل مثلاً لا يمكن أن يحترق؛ لأن الماء يمنع وصول النار إليه. إذن هناك أجزاء ثلاثة: مقتضٍ، وهو النار، وشرط، وهو الاقتراب، وعدم المانع، وهو ألا يكون الجسم رطبًا أو مطليًا بمادة تمنع وصول الماء إليه.


إذن أجزاء العلة ثلاثة، هل هذا ينطبق على الله؟ نعم ينطبق على الله، كيف؟ أيضًا الفلاسفة يقولون: هذا العالم الذي تراه ينقسم إلى عالمين: عالم الأمر وعالم الخلق، من أين أتى هذا التقسيم؟ هذا التقسيم أخذناه من القرآن الكريم، القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ هناك خلق وهناك أمر، ما هو الفرق بين الخلق والأمر؟
بعض الموجودات أوجدها الله بدون واسطة، يعني أوجدها بأمره ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، هذه الموجودات التي أوجدها بدون واسطة، أوجدها بأمره، تسمى عالم الأمر، يعني أوجدها بأمره من دون واسطة أخرى، تسمى بعالم الأمر، مثل الروح، روح الإنسان وجدت بدون واسطة، روح الإنسان وجدت بأمره تبارك وتعالى، لاحظ القرآن الكريم تعبيره دقيق عن الروح، ماذا يقول؟ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، من «أمر»، ما قال من «خلق»، الروح ليست من عالم الخلق، الروح من عالم الأمر، الروح موجود وُجِد بالأمر الإلهي دفعة واحدة بدون أي واسطة أخرى.

بينما نأتي إلى الجسد، هذا الجسد، هل وُجِد بأمره بدون واسطة؟ لا، وُجِد مع الواسطة، كيف هي الواسطة؟ واسطة التقاء الذكر بالأنثى، واسطة وجود النطفة، حتى لو لم يكن هنالك لقاء، كما في مسألة مريم بنت عمران، بالنتيجة هناك واسطة مادية، هناك نطفة تكونت في رحم هذه المرأة، سواء كان بواسطة لقاء ذكر أو بواسطة أخرى، الله تبارك وتعالى أفاض الروح بشكل وأفاض الجسد بشكل آخر، أفاض الروح بأمره وبدون واسطة، لذلك الروح من عالم الأمر، وأفاض الجسد بواسطةٍ ماديةٍ، وهي لقاء الذكر بالأنثى، وتكون النطفة في الرحم، لاحظ القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ هذه هي الواسطة ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، إذن المسألة مسألة واسطة، هناك واسطة مادية، فالروح من عالم الأمر، والجسد من عالم الخلق؛ لأنه وُجِد بواسطة مادية.

الله ألا يقدر أن يخلق الجسد بدون واسطة؟! نعم، هو قادر، قادر على كل شيء، لكنه هو تعالى لحكمةٍ اقتضاها تبارك وتعالى هو الذي صنّف الموجودات إلى موجودات أمرية توجد بلا واسطة، وهي الروح، وإلى موجودات خلقية، توجد بواسطة، كالأجساد، فإنه توجد بواسطة مادية. إذن، عندما هو الله تبارك وتعالى يخلق الأجساد، فأجزاء العلة صارت شيئين: الجزء الأول: المقتضي، وهو الله، لأنه هو الذي يفيض الوجود، هو الذي يعطي الوجود، وهناك واسطة، وهي التقاء الذكر بالأنثى، بهذه الواسطة تمت إفاضته، وتم إيجاده تبارك وتعالى.

المحور الثاني: انقسام الواسطة إلى مادية وغيبية.
الواسطة قد تكون واسطة مادية، وقد تكون واسطة غير مادية، وبحسب تعبير العرفاء: واسطة ملكية وواسطة ملكوتية، ما هو الفرق بين الملك والملكوت؟ القرآن الكريم نفسه يقسّم إلى ملك وملكوت، يقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، هذا عالم الملك، وقال في آية أخرى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ما هو الفرق بين الملك والملكوت؟ الملك هو عالم المادة، هذا العالم الذي نعيش فيه، عالم الملكوت عالم ما وراء المادة، ما وراء الطبيعة، ما وراء عالمنا هذا يسمى بعالم الملكوت، فهناك ملك، وهو عالم المادة، وهناك ملكوت، وهو عالم ما وراء المادة.

الواسطة قد تكون واسطة مادية، أي: من عالم الملك، وقد تكون واسطة غير مادية، فمثلًا: الإنسان إذا مرض فإنه يحتاج إلى الشفاء، الشفاء ممن؟ من الله تبارك وتعالى، المقتضي للشفاء هو الله، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، الله هو مصدر الشفاء، هو المقتضي للشفاء، لكن هل الله يعطيك الشفاء بدون واسطة؟! لا، لا بد من واسطة، هل هذا يعني الشرك؟! لا يوجد شرك، هو الله اقتضى ذلك، الله تبارك وتعالى اقتضى أن يفيض بواسطة، أن يعطي بواسطة، يعطيك الشفاء، هو مصدر الشفاء، هو المقتضي للشفاء، لكن يعطيك الشفاء بواسطة، قد تكون الواسطة واسطة مادية، وهي شرب الدواء، تناول الدواء، هذه واسطة مادية.
وقد تكون الواسطة واسطة غيبية غير مادية، كالدعاء، الدعاء واسطة، الدعاء واسطة من وسائط الشفاء، القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ متى أصبح قريبًا؟ مطلقًا؟! لا، قريب بواسطة ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، إذا دعاني فأنا أجيب دعوته، وإذا لم يدعني فكما يريد! الله قريب، لكنه يجيب بواسطة، بواسطة الدعاء. إذن، هناك واسطة، وهي الدعاء، لكنها واسطة غير مادية.
 

الصدقة مثلًا، الصدقة واسطة، ورد عن النبي محمد : ”إن الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبرامًا“، الصدقة واسطة لدفع البلاء، صلة الرحم، ورد عن النبي محمد : ”إنَّ للرحم لسانًا طلقًا ذلقًا يوم القيامة يقول: يا رب، صل من وصلني، واقطع من قطعني، إن صلة الرحم تعمر الديار، وتنسئ الآجال، وتطيل الأعمال، وتطرح البركة“. إذن، صلة الرحم واسطة أيضًا، فقد تكون الواسطة مادية كشرب الدواء، وقد تكون الواسطة غير مادية كالدعاء وصلة الرحم والصدقة، وهذا لا يعني قصورًا في الله، هو قادر على كل شيء، لكن حكمته شاءت ربط إفاضته وربط عطائه تبارك وتعالى بهذه الوسائط.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد