علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الدين في عصر الفردانيّة واللامنطقيّة (3)

 

حيدر حب الله
نعم، هنا نفهم بعض مغازي الحديث المنسوب إلى الإمام أبي جعفر الباقر، حيث يقول لأبي عبيدة زياد الحذّاء: يَا زِيَادُ وَيْحَكَ، وَهَلِ الدِّينُ إِلاَّ الْحُبُّ؟! أَلاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ اللهِ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾؟! أَوَلا تَرَى قَوْلَ اللهِ لِمُحَمَّدٍ: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾؟! وَقَالَ: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾. فَقَالَ: الدِّينُ هُوَ الْحُبُّ، وَالْحُبُّ هُوَ الدِّينُ.
وبما تقدَّم، يتمكَّن الدين من منح الحياة معناها؛ لأنّها تصبح رحلة وجوديّة عميقة نحو نقطة البداية الحقيقيّة للإنسان، الذي سيعود في المآل إلى الله: ﴿…وَإلَيْهِ تُرْجَعُوْن﴾ (يس: 83)، ﴿…وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (الشورى: 15). والمعنى هنا هو صيرورة كلّ الأشياء ذات مغزى، وذات قدرة على إيصالي للهدف، ولن يعود هناك شيءٌ معيق عن تحقيق هويّتي؛ لأنّ هويّتي في أعماقي، وليست في جسدي وقدراته على تحقيق شيء، ولن يتمكَّن أحدٌ من سلبي هويّتي العميقة؛ لأنّ الخيرات المادية تساوي المعضلات الماديّة عندي في أنّها ليست سوى وسائل وفرص لتحقيق الطاعة الحُبِّية واختبار قدرة الذات على تحقيق ذاتها المترقِّية، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء: 35).

هذه الصورة هي وظيفة الدين اليوم. ومسؤوليّةُ الجميع تحقيق انبعاث هذا الدين الذي يجعل السلوك الفقهي الشرعي تجلّياً للروح المعنويّة هذه، وليس مفروضاً. فالأنبياء كانوا يعيدون تكوين أصحابهم ويولِّدونهم ولادةً باطنيّة عميقة، ولا يعيدون ضبط السلوكيّات الخارجيّة دون نفوذ إلى الأعماق. ولهذا كانوا سلاطين الأرواح. فهم لا يغيِّرون الباطن، بل يجعلون الإنسان يغيِّر باطنه بإرادته.
هذا هو الفاصل بين إيمان الفيلسوف والمتكلِّم وإيمان العارف. فإيمان الفيلسوف والمتكلِّم هو تحويل الحقيقة الوجوديّة العميقة إلى مجرَّد قضيّة خبريّة مستهْدَفة بالاستدلال، بينما إيمان العارف يحافظ على الحقيقة الوجوديّة (بمفهوم المدرسة الوجوديّة Existentialism) للإيمان، ويحوّله إلى تجربةٍ. فأن تكون لديك معلومات عن لعبة كرة القدم شيء، وأن تعيش هذه اللعبة بكلّ وجودك ـ كما يحصل مع عشّاق هذه اللعبة ورجالاتها الكبار في ساحات الملاعب ـ شيءٌ آخر. إنّ المعرفة لا تغيِّر شيئاً في الهويّة الباطنيّة، بينما الإحساس هذا يغيِّر كثيراً ويقلب حياتك وروحك تماماً: ﴿…إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24). فالإيمان بناء علاقة، وليس تكوين معرفة، كما كان يقول أمثال: اللاهوتي هانس بالتازار(1988م).

ب ـ الدين بين الهويّتين: الفرديّة؛ والاجتماعوسياسيّة
المشهد الآخر الذي يؤدّي إلى تغيير الصورة، ويعيق قدرة الدين على مخاطبة الإنسان الحديث، هو ثنائيّة الاجتماع والفرد. فمن جهةٍ نحن نلاحظ مبالغة واضحة في تكريس الإسلام السلطوي الذي يجعل الدين برمّته هو الحضور في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة فحَسْب، وبهذا يتمّ تقليص الدين ليكون مجرَّد إدارة دنيويّة للحياة، فلا يشعر الفرد بأنّه يحظى بأولويّة في هذا النظام الديني، بل هو مجرَّد حجر من أحجار لعبة الشطرنج الكبيرة. وهذا ما يقف على النقيض تماماً من حاجات الإنسان الحديث في الاستجابة لقضاياه الفرديّة والباطنيّة.
ومن جهةٍ أخرى تتجه العديد من التيّارات الدينيّة الحديثة إلى تقليص الدين كي يخاطب الجانب الفردي الباطني من الإنسان، بسحبه تماماً من التداول الاجتماعي والبيئي. ولهذا نجد نزوعاً رهيباً خلال العقود الأخيرة نحو الدين الباطني، حتّى أنّ الدين قد يظهر أحياناً هنا مجرّد وسيلة من وسائل بعث الطمأنينة النفسيّة. وهذا ما يهدِّد ثلاثيّة الشريعة والعقيدة والتاريخ في الدين؛ لأنّها سوف تصبح ثلاثية مهمَّشة، لصالح العلاقة الروحية العائمة. ولهذا نجد أنّ بعض التيارات اليوم في العالم عندما انتبهت إلى أنّ الدين لا يريد سوى بعث السكينة والطمأنينة والسلام الداخلي برَّرت لنفسها التخلّي عنه بوسائل يمكن أن تحقِّق هذا المقصد من وجهة نظرها. وبهذا صرنا نلاحظ اليوم تيارات كبيرة باتت تُعْرَف بـ (العرفان بدون الله)؛ لأنّ الصورة الفرديّة الباطنية للدين تحوَّلت إلى مجرّد ممارسة رياضة (اليوغا)، التي تستهدف بعث السكينة واكتساب الطاقة الإيجابيّة، تمهيداً لقيام الإنسان بأنشطته اليوميّة مسروراً سعيداً.

هذا الخطأ المتقابل الذي وقع (أعني تقليص الدين إلى هويّة اجتماعيّة سياسيّة، وتقليصه إلى هويّة فرديّة علاجيّة نفسيّة) يمكن أن تكون له مردوداتٌ سلبيّة كبيرة. فنحن محتاجون اليوم بشكلٍ فاعل إلى الروح الباطنية في الدين. فهذا الجانب الباطني من حياة الإنسان يمكن للدين أن يخاطبه، كما يخاطب العقل المجرَّد، لكنّ الدين الحريص على الإنسان لا يمكنه أن يترك البيئة الحاضنة التي توفِّر له سلامةَ التجربة الروحية؛ فإذا لم يكن للعقل رقابةٌ، ولم يكن للوحي إرشادٌ وتوجيه، فمن الممكن أن تذهب التجارب الروحيّة والمعنوية نحو نتائج خاطئة، ومن ثمّ لن نتمكَّن من التمييز لاحقاً بين الحقيقة والخرافة، وسنجعل الدين والتجربة الدينيّة عرضةً للخرافة والأساطير. وهذا ما لن يخدم الإنسان الفرد، ولا الإنسان بوصفه جماعة.
إنّ الطريقة الفاعلة هنا هي بتحويل العقيدة إلى معايشة، وعدم إبقائها مجرّد سلسلة من الجمل الخَبَريّة التي تهدف إدراك واقعٍ موضوعي خارجي. فالقرآن الكريم عندما جاء مخاطِباً مشركي العرب بالكفّ عن الشرك لم يفتح كلّ هذه المعركة الفكريّة والحضارية لكي يتصارع مع الآخرين على أرقام، فهل الله واحدٌ أو هو اثنين أو ثلاثة؟ المسألة ليست مسألة أرقام، إنّما هي مسألة نمط عيش وحياة وتجربة روحيّة؛ لأنّ التوحيد ـ كما يقول العلاّمة الطباطبائي ـ لو فصَّلناه فهو الإسلام كلّه، ولو اختصرنا الإسلام فهو التوحيد. فالعبادة والعلاقة بين الفرد والله وبين الفرد ومخلوقات الله هي علاقة توحيديّة، وليست المسألة مسألة صراع أرقام وحسابات رياضيّة. وبهذا يمكن للدين اليوم أن يحوّل المعرفة الماورائيّة إلى نَمَطٍ من العيش، بَدَل أن يجعل القضايا العقديّة مادّةً للتنازع غير المنتج.

دعوني أؤكِّد اليوم على فكرةٍ: لسنا بحاجة في هذا الزمان، وخاصّة بالنسبة إلى المجتمعات التي دخلت فضاء ما بعد الحداثة، أن نستخدم ونتعب أنفسنا بالتشييد البرهاني للعقيدة. نحن بحاجة للتشييد التبريري لها. يكفي أن نقدِّم عقيدةً تحظى بانسجامٍ داخلي، وبقدرة على الإنتاج الإيجابي؛ لكي نقوم بتبريرها عبر ذلك. فالمعرفة في الدين معبرٌ لتغيير الحياة، وهي إنتاجٌ جديد للإنسان نفسه. ولهذا ورد في بعض النصوص الحديثيّة الكلام عن علومٍ لا تنفع؛ لأنّ مراكمة المعلومات ليست هدفاً، بل الغائيات والمقاصد من وراء المعرفة هي الهدف، وقدرة المعرفة على إنتاج الترقّي الحقيقي هو الهدف.
والنتيجة: إنّ إعطاء البُعْد الفردي في الدين حجمَه الحقيقي، وإعطاء البُعْد الاجتماعي حجمَه كذلك، ووقف طغيان أحدهما على الآخر، هو مدخلٌ مقبول لمعالجة مشكلة علاقة الإنسان الحديث مع الدين.

ج ـ مآلات المخاطرة في نزعة اللامنطقيّة
نعرف جميعاً أنّ عصرنا اليوم ينادي باللامنطقيّة، فهناك الكثير ممَّنْ بات يعتقد أنّ الحياة لا ينبغي بل لا يمكن أن تُبنى على المنطقيّة؛ لأنّ منطقيّة التفكير لا تستلزم صحَّتَه. وهو أمرٌ بدأت أولى طلائعه من نهايات القرن الثامن عشر، وخاصّة مع الفيلسوف الألماني كانط.
إنّ اللامنطقيّة هذه يمكن أن تكون نافعةً في مكانٍ، لكنّها قد تلحق أكبر الضرر بالإنسان الفرد والجماعة؛ لأنّ الكائن الإنساني لا يعيش لوحده، ومن ثمّ فإذا لم يخضع لقوانين الطبيعة والاجتماع والتاريخ، ولو في إطار سعيه لتغييرها حيث يتسنّى ذلك، فإنّه سوف يصطدم بالواقع. لا يمكنني أن أبني عالمي الخاصّ، أو أن أفسِّر العالم من حولي على أنّه عالمي، ولا يوجد شيء غير ما أنا أشعر به، إنّ هذا المنطق الظاهراتي والهايدغري يمكن فهمه في سياقٍ فلسفيّ، لكنّه في سياقٍ سلوكيّ إنسانيّ لن يؤدّي إلاّ إلى تهديد الإنسان نفسه على وجه البسيطة.
إنّ المبالغة في التركيز على الإنسان الفرد يمكن أن تطيح بمنجزات البشر في ما يخصّ حقوق الإنسان نفسها؛ إذ ما دمنا نعطي الذات وميولها مطلق الحقّ، أو نعطيها الأصالة، فمن الممكن فيما بعد أن نصل إلى تشكيكٍ في جدوائيّة وضع معايير إنسانيّة لحياة البشر، وبهذا نكون مساهمين في ابتلاع الإنسان لنفسه واقتضامه لأبعاضه.
لا يمكن تحرير الحياة الفردية من العقلانيّة، وكذلك من الشبكة الاجتماعيّة العلائقيّة، مهما أُصبنا بخيبات أملٍ من محاولات التعقيل، ومن طرق مسدودة للوصول إلى المنطقيّة المطابقة للواقع. فإذا لم نختَرْ المنطقيّة الذهنية؛ بوصفها الأقرب إلى المنطقية الواقعيّة، فليس بأيدينا حلٌّ أفضل يمكن أن يعالج المشكلة. وهذا أمرٌ خطير جدّاً؛ لأنّ التخلّي عن المنطقيّة العقليّة يحمل قَدْراً  كبيراً جدّاً من المخاطرة.
وبكلمةٍ أخيرة
لا يمكن إعادة الدين إلى حياة الإنسان المعاصر إلاّ:
بإصلاح رؤيتنا للدين نفسه من جهةٍ، وامتلاك جرأة هذا الإصلاح، وخاصّة أنّ الوقت لا يجري لصالحنا.

إنّنا ـ وبأملٍ ـ نتطلّع في ذلك إلى المفكِّرين والعلماء والفقهاء المسلمين، بل وعموم رجالات الأديان في العالم، أن يتخطّوا قضاياهم الجزئيّة والمناطقيّة، ليتطلَّعوا إلى ما يأتي به المستقبل من ولادة عصرٍ جديد، إنْ لم نسابق الوقت فيه فلن يكون لنا وجودٌ قطّ، وخاصّة في ظلّ عالَمٍ يشهد أكبر عمليّة تنميط في تاريخه منذ شروع العصر الحديث للعولمة، وما باتت تعنيه هذه الكلمة من إبادة الهويّات المختلفة في العالم.
وبنقد أصول التفكير الفلسفي المعاصر من جهةٍ ثانية، والانتباه الدقيق إلى أنّ الكثير من الأفكار التي تتسرَّب في مختلف العلوم والفنون، والتي نتشرَّبها ـ من حيث لا نشعر ـ عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل، وخاصّة عبر المنجزات الفنّية والعالميّة في السينما والتلفاز والمسرح والموسيقى وغيرها..، إنّ الكثير من هذه الأفكار ليس سوى ترجمةٍ لرؤية فلسفيّة عميقة، بِتْنا نأخذ بها دون تفكير، بل دون انتباهٍ لجذورها. ولا أريد أن أعادي العصر برفضها، بل أريد أن أعطي لنفسي الحقّ في التنقيب والبحث فيها قبل أخذها دون وعيٍ مسبق. فأكبر المخاطر على الإنسان الحديث هي مخاطر الاغتراب والتعليب؛ إذ يتمّ تكوينه عبر هذا الأخطبوط المهول، دون أن يشعر هذه المرّة أنّه بات مستلباً.
عسانا بهاتين الخطوتين المتقابلتين نحقِّق ذواتنا بأنفسنا ووَعْينا، ونخدم قناعاتنا وإيماننا، ونبقى رساليّين بكلّ معنى الكلمة، إنْ شاء الله تعالى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد