المترجم: عدنان أحمد الحاجي
إنقاذ الأرواح بعمليات جراحية لم يعد يقتصر على البشر. في دراسة (1) نُشرت مؤخرًا في مجلة البيولوجيا المعاصرة Current Biology، وضع الباحثون معلومات حول كيفية قيام نمل فلوريدا الحفار (2)، وهو نوع لونه بني منتشر في فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، بتقييم انتقائي وعلاج أرجل النمل المصاب (في عش النمل) وذلك بتنظيف الجروح وتطهيرها أو بتر الأرجل. والعلاج لم يسهم في الشفاء فحسب، بل وجد فريق البحث من جامعة فورتسبورغ وجامعة لوزان ومعهد أوكيناوا للعلوم والتكنولوجيا (OIST) أن خيار النمل للرعاية الطبية هذا، يقدم من قبل النمل بحسب نوع الإصابة وموضعها التي يتعرض لها بعض أفراده.
"عندما نتحدث عن حالة البتر، فهذه هي الحالة الوحيدة التي يحدث فيها بتر متقدم وممنهج بواسطة إحدى النملات لنملة أخرى من النوع نفسه في المملكة الحيوانية". بحسب ما قال المؤلف الأول الدكتور إريك فرانك Erik Frank، الباحث في البيئة السلوكية من جامعة فورتسبورغ.
رعاية شخصية مباشرة
العناية بالجروح بين النمل ليست ظاهرة جديدة تمامًا. وفي دراسة (3) أجراها فريق البحث عام 2023، الذي كان من ضمنه البروفيسور إيفان إيكونومو Evan Economo من وحدة التنوع البيولوجي والتعقيد البيولوجي Biocomplexity في OIST، اكتشف أن مجموعة مختلفة من النمل الـمتابيلي(4) Megaponera analis، تستخدم غدة خاصة لتطعيم (لتلقيح) الإصابات بمركبات مضادة للميكروبات للقضاء على الالتهابات المحتملة. ما يجعل النمل الحفار المنتشر في فلوريدا (Camponotus floridanus) متميزًا هو أنه نظرًا لعدم وجود مثل هذه الغدة، يبدو أن هذا النمل يستخدم الوسائل الميكانيكية فقط لعلاج زميلاته في العش المصابة.
ووجد الباحثون أن هذه الرعاية الميكانيكية تنطوي على واحد من مسارين. يقوم النمل إما بتنظيف الجرح بأجزائه الفموية فقط، أو يقوم بعملية تنظيف يتبعها بتر كامل للرجل المصابة. ولتحديد المسار الذي يستخدمه، يبدو أن النمل يقوم أولًا بتقييم نوع الإصابة لإجراء تعديلات مبنية على معرفة لاختيار أفضل المسارين لعلاج الإصابة.
في هذه الدراسة، تم تحليل نوعين من إصابات الأرجل، التمزقات في المفصل العلوي من رجل النملة femur ومفصل الرجل الشبيه بالكاحل tibia (وهو المفصل الثاني من حيث الترتيب الدي يأتي بعد المفصل العلوي القريب من جسم النملة) جميع إصابات مفصل الرجل العلوي يتم التنظيف الأولي للجرح من قبل نملة زميلة عش غير مصابة، يلي ذلك التنظيف قضم كامل الرجل. في المقابل، إصابات مفصل الرجل الشبيه بالكاحل تنظف فقط تنظيفًا فمويًّا. في كلتا الحالتين، أدى هذا التدخل إلى ارتفاع معتبر لمعدل البقاء على قيد الحياة بالنسبة للنمل المصاب.
"في حالة إصابات المفصل العلوي من الرجل، حيث دائمًا ما تُبتر الرجل، بلغت نسبة نجاح عملية البتر حوالي 90٪ أو 95٪. أما بالنسبة لمفصل الرجل الشبيه بالكاحل، حيث يبقى بدون بتر، فقد بلغ معدل البقاء على قيد الحياة حوالي 75٪" كما يقول الدكتور فرانك. وهذا يتناقض مع معدل البقاء على قيد الحياة الذي يقل عن 40% و15% في حالتي بقاء إصابة المفصل العلوي للرجل والمفصل الشبيه بالكاحل على التوالي بغير علاج.
تشخيص شامل
وافترض الباحثون أن المسار المفضل للعناية بالجروح يمكن أن يكون مرتبطًا باحتمال الإصابة بالعدوى من موضع الإصابة. للتحقق من هذه الفرضية، تعاون الباحثون مع البروفيسور إيكونومو Economo وفريقه في OIST، وهم خبراء في التصوير ثلاثي الأبعاد وتشريح النمل. قامت طالبة الدراسات العليا في OIST، لازات أيبيكوفا Lazzat Aibekova، بالتقاط وتحليل صور لهيكلية مفاصل مختلفة من أرجل النمل، لإيجاد علاقة بينها وبين تدفق الدم وشفاء الجروح. ووجدت أن المفصل العلوي من الرجل يتكون إلى حدّ كبير من أنسجة عضلية، ما يوحي بأنها تلعب دورًا وظيفيًّا في ضخ الدم، المعروف باسم اللمف الدموي (5)، من رجل النملة إلى جسمها الرئيس. في حال إصابة المفصل العلوي من الرجل، تصبح العضلات ضعيفة، ما يقلل من قدرتها على دورة الدم المثقلة بالبكتيريا. من ناحية أخرى، يحتوي المفصل الشبيه بالكاحل على القليل من الأنسجة العضلية، وبالتالي ليس له دور كبير في الدورة الدموية.
يقول الدكتور فرانك: "في إصابات الجزء الشبيه بالكاحل، لم يكن هناك عائق لتدفق اللمف الدموي، ما يعني أن البكتيريا يمكن أن تدخل جسم النملة الرئيس بشكل أسرع، بينما في إصابات المفصل العلوي من الرجل، تباطأت سرعة تدفق الدم في الرجل".
قد يعتقد المرء أنه إذا أدى تلف المفصل الشبيه بالكاحل إلى حدوث التهابات بشكل سريع، فإن بتر الرحل بالكامل سيكون هو الإجراء الأنسب. بيد أن الباحثين وجدوا أن السرعة التي يستطيع بها النمل بتر الرجل المصابة لها أهمية في منع انتشار الإصابة بالعدوى. تستغرق عملية البتر بواسطة نملة أخرى 40 دقيقة على الأقل حتى تكتمل. أثبتت الاختبارات التجريبية أنه في حالة إصابة المفصل الشبية للكاحل، إذا لم يتم بتر الرجل فورًا بعد الإصابة، فلن تبقى النملة على قيد الحياة. "وهكذا، نظرًا لعدم قدرتها على بتر الرجل بسرعة كافية لمنع انتشار البكتيريا الضارة، يحاول النمل الحد من احتمالية الإصابة بالعدوى المميتة وذلك بتنظيف جرح المفصل الشبيه بالكاحل"، كما يقول كبير الباحثين وباحث علم الأحياء التطوري الدكتور لوران كيلر Laurent Keller. من جامعة لوزان. ويضيف الدكتور فرانك أن "حقيقة أن النمل قادر على تشخيص الجرح، والتحقق مما إذا كان الجرح مصابًا بالعدوى أو معقمًا، ومعالجته وفقًا لذلك على مدى فترات طويلة من الزمن من قبل أفراد أخرى من النمل في العش - الجهاز الطبي الوحيد الذي يمكن أن ينافس جهاز النمل هو جهاز الإنسان الطبي".
وبالنظر إلى الطبيعة المتقدمة لهذه السلوكيات، فإن الفكرة التالية المعقولة هي معرفة كيف يستطيع هذا النمل تقديم مثل هذه الرعاية الطبية الدقيقة. يقول الدكتور كيلر: "إن هذا السلوك، في الواقع، هو سلوك غريزي". "تتغير سلوكيات النمل بناءً على سن النملة، ولكن لا يوجد سوى أدلة بسيطة على أن هذا السلوك هو سلوك اكتسابي تعلّمه النمل".
هذه الدراسة تعمق أوجه التشابه بين طب النمل والطب البشري؛ كان البتر في السابق علاجًا مفضلاً للأطراف المصابة، ولكن استبدل في النهاية بوضع مضادات حيوية مباشرة على الجزء المصاب. تثبت الدراسات أن أنواع النمل المختلفة تستخدم أيضًا هذه الاستراتيجيات لعلاج جروحها التي أصيبت بها.
ويخلص البروفيسور إيكونومو إلى أن "هذا السلوك يثبت مرة أخرى أن الحشرات الاجتماعية التي تعيش في مجتمعات قد طورت سلوكيات تعاونية متقدمة، وفي هذه الحالة تتمثل هذه السلوكيات في الرعاية الطبية لأفرادها، والتي اعتقدنا بسذاجة أن البشر هم فقط المتفردون بها".
ـــــــــــــــــــ
مصادر من داخل النص وخارجه
1- https://www.cell.com/current-biology/fulltext/S0960-9822(24)00805-4
2- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/نمل_حفار
3- http://https://www.nature.com/articles/s41467-023-43885-w
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/نمل_ماتابيلي
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/الدم_واللمف
المصدر الرئيس
https://www.oist.jp/news-center/news/2024/7/5/ants-perform-emergency-medical-care-field?utm_source
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)
نظرة إجماليّة في السّير المعنوي