الثالث: إنكار الفطريات
إن التعلّل بمعرفة النفس أصبح في هذه الأزمان أداة طيّعة في يد الإلحاد، خصوصاً الجامعيين المؤمنين بفروض "فرويد" ومنهجه فجعلوا علم النفس أساساً لإنكار الفطريات، الّتي يقوم عليها دين التوحيد، يقول سبحانه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30).
وقد عادت علاقة الدين بالإنسان عندهم وليد الميول الجنسية للإِنسان، بل أصبحت المعنويات عند أصحاب هذا المنهج ظاهرة طفولية، واستبقاء لعلاقة الطفل في يوم عجزه، بأُمه وأبيه، فإذا كبر الإنسان وأحس بعجز الأب والأم تجاه الأخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر وأقدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يُحلَّها محل أبيه، وهكذا نشأت عندهم فكرة الإله.
فالعالم الكلامي الّذي يريد الدفاع عن حياض الإسلام والمسلمين لا مناص له إلا التركيز على معرفة الإنسان، معرفة تامة، بنفس الطرق الّتي يستعملها علماء النفس في معرفته.
الرابع: الغرور بالعلم
إن الانغرار بالعلم الحديث - مع الاحترام التام للعلم وأهله - صار سبباً لإِنكار المعاجز، وخوارق العادات، وتسرب الشك إلى الوحي والإدراك الخارج عن إطار الحس والعقل، كما تسرب الشك إلى العصمة في الأنبياء، وبكلمة قصيرة، في أكثر ما يرجع إلى عالم الغيب والخارج عن الشهادة، وصار هذا مبدءًا لنزوع كثير من الباحثين عن القرآن والسنة إلى تأويل ما لا يلائم قوانين الشهادة. ولأجل أن يكون القارئ الكريم على بصيرة من اغترار هؤلاء بالعلم، نذكر نماذج من أفكارهم.
فهذا هو شيخ الأزهر محمد عبده (ت 1323 هـ) وقد خدم الأزهر بفكره وقلمه وورث عن أستاذه السيد جمال الدين الأسد آبادي، أفكاره وآراءه يؤول الآيات الدالة على إحياء الموتى في هذه النشأة، تأويلاً يناسب روح العصر الإلحادي.
كما أنه بطبيعته العلمية يحاول أن يفسر الملائكة بالقوى الطبيعية، ومن المعلوم أنّ الحافز إلى هذا التوجه ليس إلاّ الاغترار بالأساليب العلمية التجريبية والخوف من المتدرعين بالعلم الحديث، والانهزام أمامهم. وإلاّ فقد كان اللائق بشيخ الأزهر الصمود أمام التيارات الإلحادية وأن يقول - رافعًا عقيرته - إنّ أقصى ما للعلم من الحق هو الإثبات لا النفي، فالعلوم التجريبية مهما بلغت من القمة، ليس لها شأن إلاّ تحليل الموجودات المادية فقط، وأما نفي ما وراء الطبيعة وإنّه ليس هناك ملك ولا جن ولا وحي ولا لوح ولا قلم، فلا شأن له فيه، ولو تدخل فيه فقد تطلع إلى ما هو أقصر منه.
وهذا هو الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، يرى أن التشريع الإسلامي غير صالح للتطبيق على هذه الظروف، وإنه يختص بالعصور الغابرة يقول: إن من ينظر في كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة والحذق، يجد أنه من غير المعقول أن تضع قانوناً أو كتاباً أو مبدأ في القرن الثاني من الهجرة ثم يجيء بعد ذلك، فتطبق هذا القانون في 1354 هجرية.
وهذا فريد وجدي كاتب دائرة معارف القرن الرابع عشر تجده يرقص لإفلات الحكومات من سلطان رجال الدين ويمدح ثمرات العلوم مغمزاً بثمرات الدين، يقول: "تقدم الزمان وأفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين واقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، ففي هذه الأثناء كان العلم يؤتي ثمرات من استكشاف المجهولات، وتخفيف الويلات، وترقية الصناعات، وابتكار الأدوات والآلات، ويعمل على تجديد الحياة البشرية تجديداً، رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم، بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة وتحت سلطان العلوم المادية، وبين ما كانوا عليه أيام خضوعهم لحفظة العقائد".
وليس هذا الداء مخصوصاً بهؤلاء، بل هناك رجال آخرون تأثروا بالفلسفة المادية الغربية فأخذوا ينظرون إلى منطق الدين باستصغار.
فهذا أحمد أمين المصري الطائر الصيت، يقول في كتابه: "إن قانون التناقض الّذي يقول به المنطق الشكلي القديم والّذي يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون وأن لا يكون في آن واحد، يجب عليه الآن أن يزول من أجل حقيقة "هيجل" العليا الّتي تنسجم فيها المتناقضات والّتي تذهب إلى أن كل شيء يكون موجوداً وغير موجود".
وقد عزب عن المسكين أن ما يدّعيه "هيجل" من الجمع بين النقيضين لا يمت إلى النقيضين المبحوث عنهما في المنطق الشكلي، بصلة. وإنّما هو عبارة عن العناصر المتضادة في الطبيعة الّتي يحصل من تفاعلها شيء ثالث، ولو أردنا أن نعبر عنه باصطلاح صحيح، فيجب أن نقول: يريد المتضادين في مصطلح الفلسفة، لا النقيضين، ولا الضدين في مصطلح المنطق.
ثم نسأل الأُستاذ، إذا كانت أَبده القضايا، أعني امتناع اجتماع النقيضين، واقعة في إطار الشك والترديد، بل الردّ والإنكار، فأنّى له أن يثبت قضية يقينية طاردة للشك واليقين، إذ المفروض عنده أنّ النقيضين يجتمعان، وأنّه لا مانع من أن تهدف قضية "قرأ أرسطو على أفلاطون" ونقيضها "لم يقرأ أرسطو على أفلاطون".
وأسوأ من ذلك قوله الآخر، مندداً بعلم الكلام الّذي نرى جذوره في القرآن والسنة، ثم العقل: "أما علم التوحيد فبرهان لمن يعتقد، لا لمن لا يعتقد، برهان لصاحب الدين، لا لمخالفه، ولهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببًا في إيمان من لم يؤمن، أو إسلام من لم يسلم إلا نادرًا، وإنّما كان سبباً في إيمان الكثير وإسلام الجم الغفير، الدعوة من طريق القلب لا من طريق المنطق".
نقول: إذا لم يكن علم الكلام سببًا لإيمان من لم يؤمن، فما معنى هذه البراهين الّتي يسوقها القرآن حول دحض الشرك ودعم التوحيد، وإذا كان العقل غير مفيد في الهداية، بل المفيد هو الكشف والشهود، الّذي يعبر عنه بطريق القلب، فما معنى دعوة الوحي إلى التعقل والتدبر.
والعجب أن كل ما يقوله هو، هو برهنة واستدلال بالعقل، وهو يريد أن يرد العقل بالعقل، فما هذا التناقض؟ اللهم إلاّ أن يلتجئ الأستاذ إلى فرضية "هيجل" وأنّه يصح الجمع بين النقيضين!!.
وفي مؤخر القوم، كاتب "حياة محمد"، محمد حسين هيكل، فإنّه يبث سمومه في مقدمة كتابه وثناياه، ويرفع عقيرته بأن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق، يقول:
"انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان وفي الرسالة الإسلامية، وصاحبها، وزادهم انصرافاً ما رأوا العلم الواقعي والفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي، الميتافيزقي، ليس هو أيضاً من الطريقة العلمية في شيء".
ماذا يريد من قوله: إن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق. فهل يريد من المنطق، الاستدلال عليها، كما يستدل عليها بالبرهنة العقلية الّتي تقوم على أساس إرجاع النظريات إلى البديهيات، فهذا عدوان وظلم، فان أصول المسائل الدينية إنما تثبت بالبرهان العقلي، ومن سَبَرَ كتب الإلهيات للمعتزلة والأشاعرة والإمامية يجد مقدرتهم العلمية على إثبات ما يتبنونه.
وإنْ أراد أنّه لا يخضع للأساليب التجريبية الّتي هي من شؤون العلوم المادية، فهو مسلم، لكن ذلك الترقب، ترقب في غير محله، لخروجه عن نطاق التجربة.
والعجب أن ما ذكره الأستاذ ليس أمراً تجريبيًّا بل هو برهنة عقلية استنتجها من المشاهدات، حسب زعمه.
هذه نماذج من الاغترار بالعلم وتسرب المادية إلى الأوساط الدينية، فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين يعدون في الجبهة والسنام من الشخصيات الدينية في مصر العزيزة، فما حال البسطاء الذين ينهلون من مشارعهم ومشارع من يتظاهر بالمادية ويرفع عقيرته بأنّه قد مضى سلطان الدين وبدأ سلطان العلم.
هذه وتلك وغيرها ممّا لم نذكر يفرض علينا رسالة جديدة في علم الكلام وهي التركيز على الموضوعات الّتي يتخذها الإلحاد منصة لإذاعة الإلحاد وإطلاقه. ولا نكتفي بعلم الكلام السابق، والموضوعات المحدودة، بل نماشي حاجات العصر بتطوير خاص لنجابه بذلك ضوضاء الإلحاد، بالمنطق الرصين والعظات البالغة النافذة.
دواءٌ يزيدُ داءً
وهناك رسالة أخرى لعامة المسلمين وهي ادلاء النصح للوهابية الذين يدّعون أنهم يتبنون عقيدة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فقابلوا هذا السبيل الإلحادي الجارف بنشر ما ألف بيد المحّدثين في العصور السابقة، ثم نشر ما ألفه ابن تيمية وتلميذه ابن قيم ومقلده في العصور الأخيرة "محمد بن عبد الوهاب". زاعمين بأنّهم يوصدون بذلك الباب أمام تطرق الإلحاد إلى قلوب الشباب المسلم.
ولكنه أشبه بمداواة العجوز، ينفع مرة ويضر مرات، فإن ما كتب بيد السلف يحتوي على كل رطب ويابس وصحيح وسقيم ورصين وزائف، وإن دَلّ على كونه سبحانه جسماً ذا أعضاء بشرية وأنه يجلس فوق العرش ويستوي عليه وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وغيره ممّا نستعيذّ بالله منه، ونجلّه تعالى عنه، وقد اتخذها بعض السلف عن اليهود ومستسلمة أهل الكتاب فأودعوها كتبهم الحديثية إلى أن جاء الخلف ونظر إليها بتقدير واحترام وحسبها حقائق راهنة سمعها المسلمون من النبي الأكرم.
يشهد الله وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم إنّ في بث هذه الكتب آثاراً سيئة في أفكار الشبان وفيها حط لمقام نبي العظمة بل إنها حلقات بلاء تجر الويل على الإسلام، والدمار للمسلمين، فيجب أن يكون هناك نظارة على نشر هذه الكتب حتى يميز الصحيح من غيره، ويعلق على غير الصحيح.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان