علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

دين الخروج من الدّين

يُعرف المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه على أنّه صاحب نظريّة: «المسيحيّة هي دينُ الخروجِ من الدين». وليس يعنيني هنا سوى استعارة الجملة منه، لكي أنقل من خلالها فكرتي التي أريد توضيحها.

 

عندما أقول: دينُ الخروجِ من الدين، فإنّ هذه الجملة ـ بالنسبة لي، وبعيداً الآن عن غوشيه ـ يمكنني أن أضعها ضمن سياقين:

 

السياق الأوّل: أن ننتج ديناً ـ أي قراءة للدين ـ تدّعي أنّها تريد أن تحفظ الدين في العصر الحديث وتجعله قادراً على البقاء في ظلّ تمدّد مرجعيّة العلم بشقّيه: الطبيعي والإنساني، ولكنّ هذه النسخة من الدين تبلغ حدّاً في تركيبتها وبنيتها أن عندما تحضُر فإنّ مآلات ذلك ليس سوى تلاشي الدين من حياة الناس. إنّها أشبه شيء بورقة رقيقة للغاية لا تقدر على تحمّل أي مؤثر خارجي ولا أن تقوم بدور فاعل، فتتمزّق وتنتهي إلى أن تُصبح رماداً تذروه الرياح.

هذا ما أفضّل أن نطلق عليه: الدين الرقيق أو الخفيف، الذي خسر نفسه بسبب رقّته وخفّته، فهو قد ألقى بحمولاتٍ كثيرة فيه حتى بات خفيفاً للغاية يتطاير في الهواء ولا يحمل في داخله مضموناً وازناً قادراً على المنافسة الحالية القائمة أو على سدّ فراغ حقيقي.

 

السياق الثاني: أن ننتج ديناً ـ أي قراءة للدين ـ تدّعي أنّها تريد حماية الدين من العصر الحديث، وليس كما في النسخة الأولى التي تريد حماية الدين في العصر الحديث، فالعصر الحديث بالنسبة للنسخة الثانية هو عدوّ ينبغي الوقوف في وجهه بالإصرار والعناد ما أمكن، ولا يمكن التفاوض معه، وأيّ تنازل في التفاوض سوف يجرّ إلى انهيار عقد السبحة؛ لهذا يجب إبقاء النسخة التراثيّة، بل والزيادة عليها ما أمكن، والسعي لتكبير حجم الدين وادّعاء تحدّثه فيما يخصّ مساحات واسعة من حياة البشر، ورفع مستوى الصوت بها كي نحمي الدينَ اليوم ونجعله قادراً على أن يقدّم بدائل في مقابل منافسه (العلم).

 

لكنّ هذه النسخة بطريقتها هذه وثقل مضمونها تغرق في مستنقعها الذي تنكره وتتنكّر له، ويزداد غرقها شدّةً بزيادة ثقلها؛ خاصّة وأنّها بكثرة مدّعياتها تفتح على نفسها عدداً أكبر من الجبهات.

هذا ما أفضّل أن نسمّيه: الدين الثقيل الذي خسر نفسه بثقله، وبتنكّره للواقع المحيط به وبقدرات منافسه.

 

بهاتين الطريقتين نُولِد ديناً لا يفضي سوى للخروج من الدين، فنهايته هو انتهاء عصر حضور الدين في حياة الناس أو على الأقلّ تراجعه؛ لأنّ «انتهاء الدين من حياة الإنسان الحديث، وخاصّة الأديان التاريخيّة كالأديان الإبراهيميّة الثلاثة» مقولةٌ سبق وأن تراجع عنها العديد من علماء الاجتماع، خاصة لجهة وجود مجتمعات أكثر حداثة وأكثر تديّناً في الوقت عينه، مثل المجتمع الأمريكي.

 

ما أودّ استخلاصه ممّا تقدّم هو الآتي: أيّ شخص يريد اليوم أن يقدّم قراءة للدين، فإنّ أحد عناصر تقويم هذه القراءة هو:

 

أ ـ العنصر المنهجي الاجتهادي، وهو الذي نشتغل عليه عادةً في مقارباتنا الدينيّة على مستوى الأطراف كافّة، مستخدمين العُدد المعرفيّة من العقل والتاريخ واللغة وغيرها.

 

ب ـ لكنّ العنصر الآخر المهم من منظور اجتماعي وحضاري وأنثروبولوجي هذه المرّة، هو رصد مستوى صمود الدين ـ وفقاً لهذه القراءة أو تلك ـ أمام العصر الحديث، وهذا ما يجعلنا بحاجة لعصف ذهني متواصل يشارك فيه علماء نفس وسياسة واجتماع وتاريخ وغير ذلك لتقدير مستوى قدرة هذه القراءة أو تلك على البقاء حيّة اليوم. ومعنى البقاء حيّة ليس مدى قبول الناس أو انسجام هذه القراءة مع رغباتهم، بل مدى قدرة هذه القراءة على أن تُحافظ على بقاء الدين في ظلّ وجود منافِسين كبار مثل (العلم)، وأن تقدّم في مقابلهم بدائل حقيقيّة وازنة ولو ضمن دائرة مهمّة ومحدّدة من حياة البشر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد