علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

نظرة إجماليّة في السّير المعنوي

قد يتصور البعض أنّ دعوانا بأنّ الإسلام يعتمد الرموز والإشارات في بيان طريق الباطن، هي دعوى بلا دليل، أو هي في الواقع مجرد تخمين أو فكرة رمينا بها في الظلام - قد تصيب وقد تخطئ -. بيد أنّ التأمّل الكافي في بيانات الإسلام وتعاليمه ومقايستها بحالة الوله والعشق التي يعيشها أفراد هذه الطبقة تثبت لنا خلاف هذا التصوّر، كما تدلنا على ذلك - بنحو إجمالي - المراحل الكمالية التي يطويها السائرون في هذا الطريق، وإن كان ليس هناك سوى الذوق طريقًا في إدراك حال أولئك على نحو حقيقي وتفصيلي.

 

هذه الطبقة تنجذب بما تملك من استعداد فطري - تحمله - نحو جمال الحق وكماله غير المتناهيين. وهي تعبد اللّه (سبحانه) عن طريق الحب لا عن طريق الطمع بالثواب أو الخوف من العقاب، لأنّ عبادة اللّه بأمل نيل جنته أو خوفًا من ناره هي في الحقيقة عبادة لهذا الثواب أو العقاب نفسه وليست عبادة للّه (سبحانه).

 

فعلى أثر ما يجذب هذه القلوب العاشقة الولهة من حب - خصوصًا بعد أن تسمع قول الحق (جل وعلا) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) «1» ومئات أخرى من الآيات الحافلة بذكر اللّه (سبحانه) - نراها مشغولة بذكر اللّه أينما اتجهت، وفي أي حال كانت. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) «2»

 

وحين تستمع - هذه القلوب - إلى نداء محبوبها: (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) «3» و (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) «4» و (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) «5» تعي أنّ كل الموجودات، إنما هي تجليات - كل موجود برتبته وعلى قدر جدارته وحاله - لجمال الحق (جل وعلا) الذي لا نظير له، وأنها لا تملك إلّا أن تكون تجليًا، من دون أن تملك القدرة على الوجود أو الاستقلال بذاتها.

 

أمثال هذه النفوس تنظر بعين الحب وبقلب مستبصر إلى كل شيء فلا تجد سوى جمال المحبوب. وحين تصغي - هذه النفوس / القلوب - إلى نداء آخر من نداءات الحق (جل وعلا): (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) «6» و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) «7» يتبيّن لها أنها حبيسة - حسب نظام الخلق والوجود - أربعة جدران نفسها، وأنها لا تملك طريقًا إلى ربّها سوى طريق النفس وأنّ كل ما تراه وتقف عليه من أفناء هذا العالم الواسع إنما تراه في نفسها وتلمسه من خلالها.

 

في هذه المرحلة يجد الإنسان نفسه منقطعًا من كل شيء؛ وعن كل شيء - سوى اللّه - ولا يرى سوى نفسه وربّه. مثل هذا الإنسان يكون وحيدًا حتى وهو بين مئات الألوف، وإذا كان الآخرون ينظرون إلى وجوده بين الجموع، فهو لا يرى نفسه إلّا في خلوة خالية من الأغيار (الآخرين) وأن ليس ثمة شيء سوى اللّه (جل جلاله).

 

حين ذاك ينظر إلى نفسه وإلى كلّ شيء من خلال نفسه، وعنده لا يرى نفسه سوى مرآة يبين بها (يتجلى بها) جمال الحق الذي لا نظير له، ولا شيء سوى ذلك؛ أي لا شيء سوى اللّه.

 

وعندما يذكر (الإنسان) بهذا الشكل، وينجز العبادات والتوجهات المختلفة المترتبة عليها، بحيث يقرّ ذكر اللّه في قلبه ويكون نقيًّا من كل غفلة، يصبح في صفّ أصحاب اليقين، فيصدق عليه عمليًّا وعد الحق في قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) «8».

 

وهنا تفتح عليه أبواب ملكوت السماء والأرض، فيستيقن أنّ كل شيء هو للحق (تعالى) وملكه المطلق. يقول تعالى (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) «9».

 

لهؤلاء يكشف أولًا التوحيد الأفعالي فيشاهدون عيانًا أنّ اللّه (سبحانه) يدير العالم وكلّ ما فيه؛ من الأسباب والعناصر [السنن] غير المتناهية التي يحفل بها عالم الوجود بما ينطوي عليه من فعاليات مختلفة تنتهي بحركاتها وما تتصف به (الحركات الاختيارية تتصف بالاختيار والحركات الاضطرارية بالاضطرار) إلى يد القدرة الإلهية فيما تنقشه على صفحة الوجود. فسواء أكانت علة أم معلولة أم رابطة بين العلة والمعلول، فهي جميعًا مصنوعة منه مملوكة إليه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْض)ِ «10».

 

بعد التوحيد الأفعالي ينكشف - لهؤلاء - التوحيد الأسمائي والصفاتي فيشاهدون عيانًا أنّ ما يبيّن ويتجلّى في أفناء هذا العالم الوسيع من صفة الكمال وما تقع عليه العين جمال وجلال من حياة وعلم وقدرة وعزة وعظمة وغيرها ما هي سوى لمعة وشعاع من نبع نور الحق غير المتناهي، المشعّ من منافذ الوجود لمختلف الأشياء - بما تنطوي عليه من اختلاف فيما بينها – (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) «11».

 

أما في المرحلة الثالثة فيشاهد - هؤلاء - أنّ كل الصفات المختلفة ما هي إلّا تجليات للذات غير المتناهية، وأنّها جميعًا - في الحقيقة - مثل بعضها، والجميع هو عين الذات (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) «12».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). البقرة: 152.

(2). آل عمران: 191.

(3). الجاثية: 3.

(4). الإسراء: 44.

(5). البقرة: 115.

(6). المائدة: 105.

(7). الانشقاق: 6.

(8). الحجر: 99.

(9). الأنعام: 75.

(10). الجاثية: 27.

(11). الأعراف: 180.

(12). الرعد: 16.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد