قوله تعالى: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكة، وأفرادًا من الإنسان الذين اتخذوهم أربابًا من دون اللّه تعالى بل يعمّ كل مطاع من دون اللّه من غير أن يأذن اللّه في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) «1»، وكما قال تعالى: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) «2»، وقال تعالى؛ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) «3»، وفي الآية دليل على أن الحب يتعلق باللّه تعالى حقيقة خلافًا لمن قال: إن الحب - وهو وصف شهواني - يتعلق بالأجسام والجسمانيات، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وأن معنى ما ورد من الحب له الإطاعة بالائتمار بالأمر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) «4».
والآية حجة عليهم فإن قوله تعالى: (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) يدل على أن حبّه تعالى يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين للّه أندادًا، ولو كان المراد بالحب هو الإطاعة مجازًا كان المعنى والذين آمنوا أطوع للّه ولم يستقم معنى التفضيل لأن طاعة غيرهم ليست بطاعة عند اللّه سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) «5»، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق باللّه والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والأبناء والأموال وغيرها جميعًا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.
ثم إنّ الآية ذم المتخذين للأنداد بقوله: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبًّا للّه سبحانه فدلّ التقابل بين الفريقين على أن ذمهم إنما هو لتوزيعهم المحبة الإلهية بين اللّه وبين الأنداد الذين اتخذوهم أندادًا. وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهمًا أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإن قوله: (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) وقوله: (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث أنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكأن هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم أن لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتباع الحق من أصله أو في بعض الأمر، وليس من اتبع اللّه في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون للّه فيه سُهيم وإلّا فهو الشرك، واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من أمر اللّه، ولذلك مدح المؤمنين بذلك في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
وإذ كان هذا المدح والذم متعلقًا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع، فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة اللّه تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البتة كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، فقرر لرسوله حبًّا كما قرره لنفسه لأن حبه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حب اللّه تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع اللّه تعالى فإن اللّه سبحانه هو الداعي إلى إطاعة رسوله والآمر باتباعه، قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) «6»، وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى اللّه باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقراءته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب اللّه واتباعها طاعة تعد مقربة إليه.
فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئًا من دون اللّه ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شيء لم يأمر اللّه به فقد اتخذ من دون اللّه أندادًا وسيريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلّا اللّه ولا يبتغون قوة إلّا من عند اللّه ولا يتبعون غير ما هو من أمر اللّه ونهيه فأولئك هم المخلصون للّه دينًا.
وبان أيضًا أنّ حبّ مَن حبّه مِن حب اللّه واتباعه اتباع اللّه، كالنبي وآله والعلماء باللّه، وكتاب اللّه وسنّة نبيه وّكل ما يذكر اللّه بوجه إخلاص للّه ليس من الشرك المذموم في شيء، والتقرّب بحبه واتباعه تقرب إلى اللّه، وتعظيمه بما يعد تعظيمًا من تقوى اللّه، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) «7» والشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيد بشيء مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هو من شعائر اللّه وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى اللّه ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.
نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والآيات في قبال اللّه واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعًا أو ضرًّا أو موتًا أو حياة أو نشورًا، إخراج لها عن كونها شعائر وآيات، وإدخال لها في حظيرة الألوهية وشرك باللّه العظيم، والعياذ باللّه تعالى «8». من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسمّيه بالحب كما في موارد حب الغذاء وحب النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا، ولا نشك أنّا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي، ولا شك أن المصاديق مختلفة، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك؟
إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلاً وجدناه محبوبًا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغذائية، ولولا فعل هذه القوة وما يحوزه الإنسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبًا ولا تحقق حبّ، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية وبين فعلها، وما تجده عند الفعل من اللذة، ولسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها، ثم إذا اختبرنا حال حبّ النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع، وتعلقه بهن ثانيًا وبالتبع، كما كان حب الغذاء متعلقَا بنفس الغذاء ثانيَا وبالتبع، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان، كما كان التغذي كذلك أثرًا لقوة فيه، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلق وجودي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي.
ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإن لهذا التعلق المسمى حبًّا أثرًا في المتعلق (اسم فاعل) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الإدراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية جميعها - سواء كانت فاعلة أو منفعلة - على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها وتنجذب إليها وليس إلّا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها الطبيعية، وعند ذلك يتضح الأمر في حب المال وحب الجاه وحب العلم، فإن الإنسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم.
ومن هنا يستنتج أن الحب تعلّق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الإنسان وبين كماله، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير الإنسان، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلاً أو منفعلاً عمّا يحبه من الفعل والأثر، ومتعلقًا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مرّ في حديث الأكل والفاكهة، وغير الحيوان أيضًا كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور.
ومن جهة أخرى لما كان الحب تعلقًا وجوديًّا بين المحب والمحبوب، كان رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودًا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري. ويستنتج من جميع ما مرّ:
أولاً: أن الحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة المكتملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، ومن هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى به، أو زوج نتمتع بها، أو مال نتصرف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو معلم يعلمنا، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا، أو متعلم يتعلم منّا، أو خادم يخدمنا، أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي وبعضها خيالي وبعضها عقلي.
وثانيًا: أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية - والوجود مشكك في مراتبه - ومن المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها، وأن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريًّا أو غير ضروري، ومن حيث كونه ماديًّا كالتغذي أو غير مادي كالعلم، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم أن أصله حب الغذاء، وغيره ينحل إليه، وذكر آخرون أن الأصل في بابه حب الوقاع، وغيره راجع إليه.
وثالثًا: أن اللّه سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه، والمتناهي متعلق الوجود بغير المتناهي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لإنعامه.
ورابعًا: أن الحب لما كانت رابطة وجودية - والروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعاتها ومن تنزلاته - أنتج ذلك أن كل شيء فهو يحب ذاته، وقد مرّ أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده، ومن هنا يظهر أن اللّه سبحانه يحب خلقه لحب ذاته، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، ويحب خلقه لقبولهم هدايته.
وخامسًا: أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلّا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو، ومن هنا يظهر أن القوى والمبادئ الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها.
وسادسًا: يستنتج مما مرّ أن الحب حقيقة سارية في الموجودات «9».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة : 166.
(2) سورة آل عمران : 64.
(3) سورة التوبة : 31.
(4) سورة آل عمران : 31.
(5) سورة التوبة : 24.
(6) سورة النساء : 64.
(7) سورة الحج : 32.
(8) انظر الميزان المجلد 1 ص 404.
(9) انظر الميزان المجلد 1 ص 409.
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا
الصابئة، بحث تاريخي عقائدي
الاستقامة والارتقاء الروحي
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*