تنقسم البحوث السيكولوجية، التي تعالج مشاكل النفس وقضاياها إلى قسمين: أحدهما، البحوث العلمية، التي يتكون منها علم النفس التجريبي. والآخر: البحوث الفلسفية، التي يتحمل مسؤوليتها علم النفس الفلسفي، أو فلسفة علم النفس. ولكلّ من علم النفس وفلسفته طرائقه وأساليبه الخاصة، في الدرس والبحث.
أمّا علم النفس، فهو يبدأ من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا، فيتناول الحياة العقلية، وما تزخر به من عمليات نفسية، بالدرس والتمحيص، وله في دراساته العملية منهجان رئيسيان: أحدهما، الاستبطان الذي يستعمله كثير من السيكولوجيين، ويميز بصورة خاصة المدرسة الاستبطانية في علم النفس، إذ اتخذت التجربة الذاتية أداة لبحثها العلمي، ونادت بالشعور موضوعًا لعلم النفس.
والمنهج الآخر، التجربة الموضوعية، وهو المنهج الذي احتل أخيرًا المركز الرئيسي في علم النفس التجريبي، وأكدت على أهميته - بصورة خاصة - السلوكية، التي اعتبرت التجربة الموضوعية مقومًا أساسيًّا للعلم، وزعمت لأجل ذلك، أن موضوع علم النفس هو السلوك الخارجي، لأنه وحده الذي يمكن أن تقع عليه التجربة الخارجية.
والملاحظة الموضوعية، والحقائق التي يتناولها علم النفس، هي الحقائق التي يتاح الكشف عنها بالاستيطان أو التجربة الخارجية. وأما ما يقع خارج الحدود التجريبية من الحقائق، فليس في إمكانات السيكولوجيا التجريبية، أن تصدر حكمها في شيء من ذلك، أي أنها تمتد ما امتد الحقل التجريبي، وتنتهي بنهايته. وتبدأ حينئذ فلسفة علم النفس، من النقطة التي انتهى إليها العلم التجريبي، كما بدأت السيكولوجيا شوطها العلمي، من حيث انتهت الفيزيولوجيا، والوظيفة الأساسية للفلسفة النفسية، هي محاولة الكشف عن تلك الحقائق، التي تقع خارج الحقل العلمي والتجريبي، وذلك بأن تأخذ الفلسفة المسلمات السيكولوجية، التي يمونها بها العلم التجريبي، وتدرسها في ضوء القوانين الفلسفية العامة، وعلى هدى تلك القوانين تعطى للنتائج العلمية مفهومها الفلسفي ويوضع للحياة العقلية تفسيرها الأعمق.
فالصلة بين علم النفس وفلسفته، كالصلة بين العلوم الطبيعية التجريبية وفلسفتها، إذ تدرس علوم الطبيعة ظواهر الكهرباء المتنوعة، من تيارات ومجالات، وجهد وحث كهربائيين، وما إلى ذلك من قوانين الكهرباء الفيزيائية. وندرس على هذا النحو أيضًا مختلف ظواهر المادة والطاقة. وأما حقيقة الكهرباء وحقيقة المادة أو الطاقة، فهي من حق البحث الفلسفي، وكذلك الأمر في الحياة العقلية. فإن البحث العلمي يتناول الظواهر النفسية، التي تدخل في نطاق التجربة الذاتية أو الموضوعية، ويوكل الحديث عن طبيعة الإدراك، وحقيقة المحتوى الداخلي للعمليات العقلية، إلى فلسفة النفس، أو علم النفس الفلسفي.
وفي ضوء هذا نستطيع أن نميز دائمًا بين الجانب العلمي من المسألة، والجانب الفلسفي. وفيما يلي مثالان لذلك من مواضيع البحث السيكولوجي:
الأول: الملكات العقلية، التي يلتقي فيها الجانبان معًا. فالجانب الفلسفي يتمثل في نظرية الملكات القائلة بتقسيم العقل الإنساني إلى قوى وملكات عديدة للألوان من النشاط، كالانتباه، والخيال، والذاكرة، والتفكير، والإرادة، وما إليها من سمات. فهذه الفكرة تدخل في النطاق الفلسفي لعلم النفس، وليست فكرة علمية بالمعنى التجريبي للعلم، لأن التجربة سواء كانت ذاتية كالاستبطان، أم موضوعية كالملاحظة العلمية لسلوك الغير الخارجي، ليس في إمكاناتها علميًّا، أن تكشف عن تعدد الملكات أو وحدتها. فإن كثرة القوى العقلية أو وحدتها، لا تقعان في ضوء التجربة، مهما كان لونها. وأما الجانب العلمي من مسألة الملكات، فيعني نظرية التدريب الشكلي في التربية، التي تنص على أن الملكات العقلية يمكن تنميتها ككل، وبلا استثناء بالتدريب في مادة واحدة، وفي نوع واحد من الحقائق. وقد أقر هذه النظرية عدة من علماء النفس التربوي، المؤمنين بنظرية الملكات، التي كانت تسيطر على التفكير السيكولوجي، إلى القرن التاسع عشر، افتراضًا منهم أن الملكة إذا كانت قوية أو ضعيفة عند شخص، كانت قوية أو ضعيفة في كل شيء.
ومن الواضح أن هذه النظرية داخلة في النطاق التجريبي لعلم النفس، فهي نظرية علمية، لأنها تخضع للمقاييس العلمية، فيمكن أن يجرب مدى تأثر الذاكرة بصورة عامة، بالتدريب على استذكار مادة معينة، ويتاح للعلم حينئذ أن يعطي كلمته في ضوء تجارب من هذا القبيل، وتقدم حينذاك النتيجة العلمية للتجربة إلى فلسفة العلم السيكولوجي، ليدرس مدلولها الفلسفي، وما تعنيه من تعدد الملكات أو وحداتها. في ضوء القوانين الفلسفية.
والمثال الثاني: نأخذه من عملية الإدارك البصري، فإنه من مواضيع البحث الرئيسية في الحقل العلمي والفلسفي على السواء. ففي البحث العلمي، يثور نقاش حاد حول تفسير عملية الإدراك، بين الارتباطين من ناحية، وأنصار مدرسة الشكل والصيغة (الجشطالت) من ناحية أخرى. والارتباطيون هم الذين يعتبرون التجربة الحسية هي الأصل الوحيد للمعرفة. فكما يحلل علماء الكيمياء المركبات الكيميائية، إلى عناصرها البدائية، يحلل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية، إلى إحساسات أولية، ترتبط وتتركب بعمليات آلية ميكانيكية، طبقا لقوانين التداعي.
وفي هذه النظرية الارتباطية ناحيتان: الأولى، أن مرد التركيب في الخبرات العقلية. إلى إحساسات أولية (معاني بسيطة أدركت بالحس). والثانية، أن هذا التركيب يوجد بطريقة آلية، وطبقًا لقوانين التداعي. أما الناحية الأولى ففي نظرية المعرفة عند الحديث عن المصدر الأساسي للتصور البشري، والنظرية الحسية لجون لوك، الذي يعتبر المؤسس الأول للمدرسة الارتباطية، وحيث إن بعض مفردات التصور والمعاني العقلية لا ترجع إلى الحس، بل هي من النشاط الفعال الايجابي للنفس، وأما الناحية الثانية: فهي التي قامت بمعالجتها مدرسة (الجشطالت) فرفضت الدراسة التحليلية للحالات الشعورية، وردت على التفسير الارتباطي الآلي لعمليات الإدراك، مؤكدة على ضرورة دراسة كل واحدة من الخبرات ككل، وإن الكلية ليست مجرد صهر الخبرات الحسية والتركيب بينها، بل لها طبيعة التنظيم العقلي الدينامي السائر طبق قوانين معينة. .
ولنر الآن، بعد إيضاح الاتجاهين السابقين، تفسيرهما العلمي لعمليات الإدراك البصري. ففي ضوء الاتجاه الارتباطي يقال إن الصورة التي تنشأ على شبكية العين للبيت مثلاً، تنتقل جزءًا جزءًا إلى الدماغ حيث توجد في جزء محدد منه، صورة مماثلة للصورة الحادثة على شبكية العين. وينشط العقل، فيضفي على هذه الصورة في الدماغ، من خبرته السابقة، المعاني التي ترتبط في أذهاننا بالبيت، طبقًا لقوانين التداعي الآلية، وينتج عن ذلك الإدراك العقلي لصورة البيت.
وأما في ضوء الاتجاه الشكلي أو الكلي، فالإدراك يتعلق بالأشياء بجملتها وهيئاتها العامة، منذ الوهلة الأولى. لأن هناك صيغًا وأشكالًا أولية في العالم الخارجي، تناسب صيغ العقل وأشكاله. فيمكننا أن نفسّر تنظيم الحياة العقلية، بتنظيم قوانين العالم الخارجي نفسها. لا بالتركيب والتداعي. فالجزء في الصيغة أو الكل، إنما يدرك تبعًا للكل، ويتغير تبعًا لتغير الصيغة.
وإنما نطلق على تفسير الإدراك البصري بهذا، اسم التفسير العلمي، لأنه يدخل في المجال التجريبي، أو الملاحظة المنظمة. فإن إدراك الصيغة وتغير الجزء تبعًا لتغيرها تجريبي، ولذلك برهنت مدرسة (الجشطالت) على نظريتها بالتجربة، التي توضح أن الإنسان لا يدرك الأجزاء فحسب، بل يدرك شيئًا آخر كالشكل أو النغم، ولذلك قد تجتمع الأجزاء جميعًا، ومع ذلك لا يدرك ذلك الشكل أو النغم.
فهناك إذن الصيغة، التي تكشف الأجزاء جميعًا.... فنقول بهذا الصدد: إن الإدراك العقلي للصورة المبصرة، يثير سؤالاً، يواجهه الشكليون والارتباطيون على السواء، وهو السؤال عن هذه الصورة التي أدركها العقل، وتكونت طبقًا لقوانين التداعي الآلي، أو طبقًا لقوانين الصيغة والشكل. فما هو كنهها؟ وهل هي صورة مادية أو صورة مجردة عن المادة؟ وهذا السؤال الأساسي هو الذي يصوغ المشكلة الفلسفية، التي يجب على علم النفس الفلسفي دراستها ومعالجتها، وهو الذي ترد عليه المادية والميتافيزيقية، بجوابين متناقضين.
ويبدو الآن من الواضح جدًّا، أن السيكولوجيا العلمية - أي علم النفس التجريبي - لا تستطيع في هذا المجال، أن تؤكد على التفسير المادي للإدراك، وتنفي وجود شيء في الحياة العقلية خارج المادة، كما تزعم الفلسفة المادية. لأن التجارب السيكولوجية - سواء منها الذاتية والموضوعية - لا تمتد إلى ذلك المجال.
حيدر حب الله
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
السيد محمد باقر الصدر
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان