الإيمان بالشيء ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) «1»، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) «2» ، وقوله: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) «3»، وقوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) «4»، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد والكفر والجحود والضلال مع العلم.
فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقًّا لا يكفي في حصول الإيمان واتصاف من حصل له به، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية ولو في الجملة، فالذي حصل له العلم بأن اللّه تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنًا ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالـمًا وليس بمؤمن.
ومن هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الإيمان هو مجرد العلم والتصديق وذلك لما لأن العلم ربما يجامع الكفر. ومن هنا يظهر أيضًا بطلان ما قيل: إن الإيمان هو العمل، وذلك لأن العمل يجامع النفاق، فالمنافق له عمل وربما كان ممن ظهر له الحق ظهورًا علميًّا ولا إيمان له على أي حال.
وإذ كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية، وكل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف، كان الإيمان المؤلف منهما قابلاً للزيادة والنقيصة والشدة والضعف، فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي لا يشك فيها قط.
هذا ما ذهب إليه الأكثر وهو الحق ويدل عليه من النقل قوله تعالى: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) وغيره من الآيات، وما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السّلام الدالة على أن الإيمان ذو مراتب.
وذهب جمع منهم أبو حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واحتجوا عليه بأن الإيمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم والقطع وهو مما لا يتصور فيه الزيادة والنقصان، فالمصدق إذا ضمّ إلى تصديقه الطاعات أو ضم إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلاً.
وأوّلوا ما دلّ من الآيات على قبوله الزيادة والنقصان بأن الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة يزيد وينقص كوقوعه للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مثلاً على التوالي من غير فترة متخلّلة وفي غيره بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلاً أو بفترات قليلة.
وأيضًا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، وشرائع الدين لما كانت تنزل تدريجًا والمؤمنون يؤمنون بما ينزل منها وكان يزيد عدد الأحكام حينًا بعد حين كان إيمانهم أيضًا يزيد تدريجًا، وبالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عددًا.
وهو بيّن الضعف، أما الحجة ففيها أولاً: أن قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام.... اللهم إلّا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.
وثانيًا: أن قولهم: إن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة والنقصان، دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب وبناؤه على كون الإيمان عرضًا وبقاء الأعراض على نحو تجدد الأمثال لا ينفعهم شيئًا فإن من الإيمان ما لا تحركه العواصف ومنه ما يزول بأدنى سبب يعترض وأوهن شبهة تطرأ، وهذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال وقلة الفترات وكثرتها بل لا بد من استناده إلى قوة الإيمان وضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا. مضافًا إلى بطلان تجدد الأمثال...
وقولهم: إن المصدق إذا ضمّ إليه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي لم يتغير حاله أصلاً ممنوع فقوة الإيمان بمزاولة الطاعات وضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي الارتياب فيه، وقوة الأثر وضعفه كاشفة عن قوة مبدأ الأثر وضعفه، قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) «5»، وقال: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) «6».
وأما ما ذكروه من التأويل فأول التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان وهو الذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمنًا وكافرًا حقيقة، وهذا مما لا يساعده ولا يشعر به شيء من كلامه تعالى.
وأما قوله تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) «7»، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان مما يزيد وينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإن مدلوله أنهم مؤمنون في حال أنهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض وشرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، وهذا معنى قبول الإيمان للزيادة والنقصان.
وثاني التأويلين يفيد أن الزيادة في الإيمان وكثرته إنما هي بكثرة ما تعلق به وهو الأحكام والشرائع المنزلة من عند اللّه فهي صفة للإيمان بحال متعلقه والسبب في اتصافه بها هو متعلقه، ولو كانت هذه الزيادة هي المرادة من قوله: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة وإنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، هذا وحمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره وهو النور المشرق منه على القلب.
وفيه أن زيادة الأثر وقوته فرع زيادة المؤثر وقوته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر. وذكر بعضهم أن الإيمان الذي هو مدخول مع في قوله: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلالي، والمعنى: ليزدادوا إيمانًا استدلاليًّا على إيمانهم الفطري.
وفيه أنه دعوى من غير دليل يدل عليه. على أن الإيمان الفطري أيضًا استدلالي فمتعلق العلم والإيمان على أي حال أمر نظري لا بديهي. وقال بعضهم كالإمام الرازي: إن النزاع في قبول الإيمان للزيادة والنقص وعدم قبوله نزاع لفظي فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان وهو التصديق ذلك وهو كذلك لعدم قبوله الزيادة والنقصان، ومراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان وهو الأعمال للزيادة والنقصان وهو كذلك بلا شك.
وفيه أولاً: أن فيه خلطًا بين التصديق والإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام وليس مجرد التصديق...
وثانيًا: أن نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، ويرون أن كلًّا من العلم والالتزام المؤلف منهما الإيمان يقبل القوة والضعف.
وثالثًا: أن إدخال الأعمال في محل النزاع غير صحيح لأن النزاع في شيء غير النزاع في أثره الذي به كماله ولا نزاع لأحد في أن الأعمال والطاعات تقبل العد وتقل وتكثر بحسب تكرر الواحد «8».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة محمد: 25.
(2) سورة محمد: 32.
(3) سورة النمل: 14.
(4) سورة الجاثية: 23.
(5) سورة فاطر: 10.
(6) سورة الروم: 10.
(7) سورة يوسف: 106.
(8) انظر الميزان المجلد 18 ص 263.
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عادل العلوي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان