في مقام التحاور بين الأديان العالمية على العموم، وأديان الوحي على الخصوص، تتضاعف مكانة الوعي بفضائل الغيرية في بعديها الإيماني والمعرفي. فلو مضينا في تأصيل هذين البُعدَين لوجدنا أن من لوازم التعرَّف اقتران الإيمان بالمعرفة. فلا يبلغ التعرّف حقّانيته، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كل التقاء خلاّق بين الأديان. فإن أياً منهما تُسدِّد الأخرى وتؤيدها، أما النتائج المترتبة على مثل هذا الالتقاء، فهي في مدى ما يبديه المتلاقون من أخلاقيات عملية، ويقينيات دينية، تعزز معارفهم بنظائرهم على النحو الأكمل.
مستهل تفعيل الأسس النظرية والسلوكية للمتعرِّف، إقراره بأن البناء الروحي والفكري الذي يحكم الشخص المتديِّن، لجهة ما يبذله من جهود من أجل تمتين ارتباطه بدينه، هو نفسه الذي يحكم الشخص إياه لكي يبذل الجهد اللازم باتجاه التعرُّف على دين غيره.
وفي هذه الحال، يدرك المتعرِّف بأن هذا مثل هذه الأسس تستلزم سَيْريّة نشاط صادقة بالنية والعمل، ومدفوعة بالتبصُّر الخلقي والإيمان الديني في آن. وهو ما تنكشف آثاره من خلال النظر الى الغير بما هو نظير في النوع الانساني، وفهمه بوصفه شريكاً تاماً في بناء الحضارة الإنسانية.
الايمان والمعرفة، وفقاً لهذه السيرية [1] لا يتجزّءان ولا ينفصلان. والمؤمن المنتمي الى دين معيّن، يحتاج إيمانه الى معرفة بما يؤمن به، لكي يثبِّت في قلبه وعقله، ذلك الدين الذي ينتمي إليه. حتى المؤمن المستجد. - أي الذي اعتنق ديناً جديداً (New Born) يرفض – كما يقول المفكر الفرنسي اوليفييه روا - أن يصنّف إيمانُه – كما يفعل الإنثروبولوجيون – ضمن خانة نظام رمزي ثقافي كسائر الانظمة الرمزية الثقافية.
فالإيمان بالنسبة إليه موصول بحقيقة مطلقة؛ وإدراك هذه الحقيقة معرفياً يرجع إلى عملية تدريجية تراكمية تنمو وتكتمل في إطار الشروط الحاكمة على الجغرافيا الدينية التي يعيش يمارس تديُّنه فيها. أما الحقيقة المطلقة التي آمن بها ذلك "المؤمن المستجد" فإنها تبقى الأساس الذي يقوم عليه حضوره في الوجود.
وهذه الوضعية التي يطلق عليها اللاهوتي البروتسانتي الألماني كارل بارث عبارة "قفزة الايمان" (Le Saut de la Foi) هي التي تؤلف الديني عند ذاك الصُّنف من المؤمنين. وبهذا لا يمكن أن يكون هناك "ثيولوجيا"، أي انتماء ديني من دون وجود إيمان. حيث إن الجدل بين المعرفة والإيمان هو جدل مرتبط بالضرورة بكل الديانات السماوية.
وقد أثبت بعض التيارات الدينية الفلسفية المسيحية مثل (التوماوية) (Thomisme) (نسبة إلى القديس توما الأكويني) … غياب التضاد بين المعرفة والإيمان، وأنهما معاً يقويان بعضهما بعضاً. لكن من شأن ظواهر ثقافة التجريد أن تكسر هذه العلاقة، وتزعم أن النصوص المقدسة يمكن لها أن تتحدث خارج أي سياق ثقافي (2).
حين يكون مقتضى التعرُّف، تلازم وطيد بين الإيمان والمعرفة، تكون حرية المتعرِّف أول حاصل لهذا التلازم. بها يفارق تريُبه من ثقافة الآخر ومعتقداته، وعن طريقها تتبدّد خشيته من أن تؤدي متاخمة الغير وعقد صلات الجيرة الحسنة معه، إلى إلحاق الأذى بثقافته الدينية وإيمانه.
فالحرية التي يجري تحصيلها بفضل هذه المتاخمة، سوف تضاعف منسوب الثقة لدى المتعرِّف كل من فريقي التعرُّف، من أن استكشافه لبواعث الإيمان لدى نظيره هو إجراء ضروري لتحصين معرفته بعقيدته من شوائب الجهل. وبذلك يتحول العمل في فضاء التعرُّف إلى واجب يفتح على سفر إدراكي يعود بحصاده الوفير على الذات المتعرّفة نفسها.
هذا يعني أن التعرُّف المؤيَّد بالحرية المدركة والواعية، هو عملية مركبة: من جهة تُلبىّ الحاجةُ إلى التواصل الذي تفترضه لوازم الحياة ضمن جغرافيا حضارية ودينيّة مشتركة، ومن جهة ثانية، ينفسح السبيل لنمو حركة معرفية تفضي إلى فهم ما كان غير مفهوم مما لدى الغير من معارف إيمانية ودينية وحضارية.
وعليه، حين تصير الحرية شرطاً مقوِّماً للإيمان والمعرفة، نصل إلى مثلث قِيَميٍّ لا يستوي التعرُّف فيه على نصاب العدل إلا باجتماع أركانه معاً: الإيمان والمعرفة والحرية. ومتى اجتمعت هذه الأركان ينفسح الحقل الذي ينأى بالكل من عُقَدِ الشك والحذر والخشية والإكراه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – تعني "السيرية" الفعل الجوهري في حركة التاريخ. حيث يتلازم نشاط الإنسان في الواقع المادي والاجتماعي مع إيمانه بعناية الله التفصيلية في هذا الموقع.
(2) أوليفييه روا – حداثة وعلمانية وعودة الدين، مجلة قضايا إسلامية معاصرة – العدد (41-42) شتاء وربيع 2010.
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي المشكيني
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد باقر الصدر
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف