معثرة أنطولوجية
منذ الإرهاصات الأولى للوعي الغربيّ بالحداثة، كان ثمّة استشعارٌ بخطرٍ داهمٍ يُحدِقُ بالمباني المؤسِّسة التي قامت حضارته الحديثة عليها، ومن الجدير بالذكر في هذه المنزلة، أنّ رائد فلسفة الحداثة رينيه ديكارت لم يغاير القاعدة حين اتخذ ميراث الأسلاف منهجًا لتوليف الكلّيّات الجوهريّة لمنظومته؛ ولأنّه توقّف صاغرًا تلقاء تناقضات المفاهيم الموروثة، فقد آثر الرجوع إلى ذاته، لعلّه يُؤتَى بيقين ينجيه من حَيْرته الأنطولوجيّة، ثمّ إنّه لم يكن ليهتدي إلى “الكوجيتو” لولا أنْ غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثمّ سعى ليعثر عليه عن طريق “الأنا” المكتفية بذاتها.
الخَيارُ سيكون بالنسبة إليه شاقًّا، بل ويحتاج من المكابدة أقصاها. لقد وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم: الإيقان بالألوهيّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان، والبرهان بالفكر الذي مقتضاه الشكّ المنهجيّ من خلال السؤال، والسّببيّة، والعلَّة المفضية إلى ظهور المعلول والتعرُّف عليه.
لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراث اليونانيّ إلّا أن يلوذَ بـ “الأنا” لكي يُنجز مبتغاه. وهكذا قرّر الرّجوع إلى نقطة البداية؛ ليكشف لنا أنّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقًا منه، أنّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكّر، وها هنا يمكث الظنُّ الذي سيحمله على الاعتقاد بأنّ الإنسان ذهنٌ محضٌ، وأنّ معرفتَه بنفسه وبغيره منحصرةٌ بهذا الكائن العجيب الذي يسأل عن كلّ شيء، ويشكِّك بكلّ شيء.
من مفارقات فكر ديكارت أنّه كان ناطقًا باسم الجديد ومتمثِّلًا للقديم في الآن عينه. ولـمّا رغب أن يبدأ من جديد، ويشيّد الفلسفة على أساسٍ متينٍ، كانت جذوره عميقةً وراسخةً في التّقليد الفلسفيّ للَّاهوت المسيحيّ. وحقيقة الأمر، أنّ ديكارت لم يكن لينأى قيد أنملةٍ من شريعة الإغريق، وهو يستغرق هموم “الكوجيتو”.
ونميل إلى القول إنّه لم يقطع مع أرسطو، بل جاءت نظريّته في المعرفة امتدادًا جوهريًّا لمنطِقِه؛ حيث خضعت لوثنيّة الأنا المفكِّرة. وسيجوز لنا أن نلاحظ، أنّ الكوجيتو الديكارتيّ إن هو إلّا استئناف مسَتحدَث لـ “دنيويّة المقولات العشر الأرسطيّة”. وبسببٍ من سطوة النّزعة الدنيويّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكّرين الذين تنبّهوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. وعليه فقد جاء نقدهم للديكارتيّة ليشكّل ترجمةً مستحدثةً للميراث الأرسطيّ بمجمله.
لقد شكّل مبدأ الذاتية المؤسِّس للحداثة انعطافةً إبستمولوجيّةً نحو الأنا، الأمر الذي استلزم من ثمّة انعطافةً أنطولوجيّةً، أعقبتها انعطافةٌ إبستمولوجيّةٌ منطقيّةٌ مجَّدت الذات الفرديّة وحوَّلتها إلى ركن جوهريّ في الوعي الثقافيّ للغرب، وعلى هذا النحو من النّظر إلى “العقل الأنانيّ” المستكفي بذاته، ترسَّخت أنطولوجيا العصر الحديث وثقافاته. لقد استنبت هذا العقل الأصل الميتافيزيقيّ الذي أقامت الحداثة عليه أركانها، عنينا به الفردانيّة (individualisme) التي ستعني الإنكار لأيّ مبدأٍ أعلى منه.
لقد شكّلت هذه الأخيرة إحدى أبرز الأسس والمرتكزات التي أحكمت قبضتها الصلبة على حضارة الغرب الحديث، بل جاز القول إنّها شكّلت السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، لا سيّما من جهة كونها الدافع الحصريّ لظهور المنازع السفلى للحياة الإنسانيّة المعاصرة. ومن البديهيّ حالئذٍ أن يكون إنكار الحدس العقليّ، أوّل قيمة تستهدفها الفردانيّة لكونه أساسًا، مَلَكَةً فوق فرديّة (supra-individuelle)، وبالتالي إنكار مرتبة المعرفة التي هي المجال الخاصّ بهذا الحدس.
مثل هذا الواقع سيدفع بسيرورةٍ من عدم اليقين، أفضت في كثير من الأحوال إلى ضربٍ من الضلال المعرفيّ، وسيكون لهذه السيرورة تداعياتٌ مزلزلةٌ ليس على ميتافيزيقا الحداثة وحسب، وإنّما على مجمل العلوم الإنسانيّة في العصور اللّاحقة.
الخصّيصة الأهمّ في جوهر الغرب تكمن في وضعانيّته وفلسفته ورؤاه الوجوديّة التي أخلدت نفسها إلى فيزياء التاريخ. لم يكن إيمانويل كانط ومن تلاه من فلاسفة ومفكّري الحداثة سوى امتداد لتلك الخصّيصة الجوهريّة. الوجهة الأصليّة في فكر كانط كمؤسّس ثانٍ للحداثة وجدت تمثُّلاتها في الاهتمام بالكمال الَّلامتناهي الذي يكون الله بمقتضاه تمامًا فوق العالم الذي خلقَه.
لقد حصر وجهته الأساسيّة في الموارد الباطنيّة للذّات الفرديّة للإنسان، والتي تستطيع من خلالها تجاوز الوقائعيّة المجرّدة للتجربة، وتحوّلها إلى كونٍ منظّم وأخلاقيّ. وعلى الرغم من أنّ هذه النظرة تفتحُ المجال لإثبات وجود الله، لكنّها في ذاتها ظلّت تميلُ نحو اعتبار هذا الإثبات مصدرًا مُحتملًا للوهم والعزلة. وسنلاحظ كيف كشف كانط عنَ موارد الوهم والعزلة عبر ثلاثة مبادئ: 1) تقديم الإلهيّات الطبيعيّة على المعرفة النظريّة بالله؛ 2) تقديم الذات الإنسانيّة بما هي الأساس، والمبدأ المحفّز للأخلاق؛ و3) نقد الاعتقادات والممارسات التقليديّة للدين.
العقلانية البتراء
مجمل الأركان المؤسِّسة لجوهر الغرب جرت على الجملة تحت ظلال مقولة العقلنة، ومدَّعى “إزالة السحر عن العالم”. (désenchantement)، وعليه لم يكن ظهور العقلانيّة سوى حصيلة منطقيّة للتأسيسات التي مرَّ ذكرها. وسيتبوَّأ هذا المكوّن الجوهريّ المرتبة الحاكمة على مجمل المكوّنات المؤلِّفة لجوهر الغرب، فالمفكّر العقلانيّ يميل إلى الموقف القائل بأنّ المعقول هو الطبيعيّ، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة، وأقصى ما يعرف به هو المجهول الذي قد يصبح يومًا ما معلومًا، ولا مكان في مخطّـطـه الـفـكـريّ لـقـوى خـارقـة، ولا محلّ في عقله للاستسلام الغيبيّ لعقيدة ما، وإذا كانت معرفة ما يبغضـه فكر معيّن أشدّ البغض تفيدنا في تحديد معالم هذا الفكر، فإنّ أبغض شيء إلى العقلانيّ هو ذلك المزاج الفكريّ الذي تعبِّر عنه عـبـارة “أؤمـن بـه لأنّـه مستحيل” Credo Quia Impossible.
على هذا المبدأ مضت العقلانيّة إلى إسقاط كلّ ما هو خارق للطبيعة أو غيبيّ من الكون، وأبقت فقط على الطبيعيّ، الذي يؤمن الفكـر الـعـقـلانـيّ أنـّه قـابـل للفهم في النهاية، وأنّ سبيلنا إلى فهمه فـي الـغـالـب الأعـم الـوسـائـل الـتـي يعرفها أكثرنا باسم مناهج البحث العلميّ.
ويبدو واضحًا من الناحية التاريخيّة أنّ نموّ المعارف العلميّة والقدرة المزايدة على استـخـدام المـنـاهـج الـعـلـمـيـّة، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنموّ الاتجاه في النظر إلى الكون والكوزمولوجيـا العقلانيّة. والحقيقة أنّ أغلب المفكّرين العقلانيّين كان لهم نظرة كاملة إلى العالم، وأسلوب حياة مرتبط بإيمانهم بالعقل، العلماء الممارسون كانوا عقلانيّين، وكلّ من يذهب من العلماء إلى أنّ المعارف الصحيحة هي فقط تـلـك الـتـي نصل إليها عن طريق المنهج العلميّ، إمّا أن يكون بالضرورة عقلانيًّا أو شكّاكًا، ولكن من المهمّ جدًّا أن نتذكّر أنّ العلم والعقلانيّة، وإن كانا قد تداخلا وارتبطا فيما بينهما على مرَّ التاريخ، ليسا شيئًا واحدًا على الإطلاق.
وهكذا اعتُبرت النزعة العقلانيّة بالصورة التي نمت بها خلال الـقـرنـين الـسـادس عـشـر والـسـابـع عشر في الغرب نسقًا ميتافيزيقيًّا كاملًا، بل إنّها كانت وما زالت بالنسبة لقليل من الناس بمثابـة البديل للدين. ونـظـرًا لأنّ الـنـزعـة العقليّة أخذت بوضعها هذا صورة مذهب شبه دينيّ، فقد كان من الأفضل وصفها بأسماء محدَّدة مثل المادّيّة والوضعيّة وما شابه ذلك من تسـميات تشير بدقّة أكثر إلى مركّب كامل من المعتقدات والعادات والتنظيم المتّصلة بذلك.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
محمود حيدر
الشيخ شفيق جرادي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مهدي النراقي
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ باقر القرشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
﴿وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾
مفهوم القصص في القرآن
وسائل تحصيل الإخلاص وقصد القربة في الصلاة (1)
آل هاشم ثانيًا في مسابقة فوتوغرافيّة في العراق
ظهور الحداثة بوصفها جوهرًا ناقصًا (1)
هل يمكن للعقل أن يعرف الله؟
ما هو الثواب الأعظم للصائم الحقيقي؟
مراكز متقدّمة لأشبال تراتيل الفجر في مسابقات قرآنية
اكتساب الفضائل
معنى قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا..}