السيد محمد حسين الطباطبائي ..
١ ـ الإنسان في حياته البدائية القصيرة الدنيوية يشبه الحباب (١) الذي يعلو الماء ، إذ ركز أوتاد خباء وجوده في مياه بحر المادية ، وكل ما يقوم به من المساعي والجهود أعطيت أزمّتها بيد ذلك البحر المادي الهائج.
اشتغلت حواسه الظاهرية والباطنية بالمادة ، وأفكاره إنما تتبع معلوماته الحسية. فإن الأكل والشرب والجلوس والقيام والتكلم والاستماع والذهاب والإياب والحركة والسكون وكل ما يقوم به الإنسان من الأعمال والأفعال وضعت أسسها على المادة ولا يفكر إلا فيها.
وما نرى منه في بعض الأحيان من الآثار المعنوية ـ كالحب والعداء وعلو الهمة ورفعة المقام وأمثالها ـ إنما يدركها بعض الأفهام لأنها تجسم مصاديق مادية ، فإن الإنسان يقيس حلاوة الغلب بحلاوة السكر وجاذبية الصداقة بجاذبية المغناطيس وبعلو الهمة بعلو مكان ما أو علو نجوم السماء وعظم المقام ورفعته بعظم الجبل وما أشبه هذه الأشياء.
ومع هذا تختلف الإفهام في إدراك المعنويات التي هي أوسع نطاقاً من الماديات ، فإن بعض الأفهام في غاية الانحطاط في درك المعنويات ، وبعضها تدرك إدراكًا قليلًا ، وهكذا تتدرج إلى أن تصل بعض الأفهام بسهولة إلى درك أوسع المعنويات غير المادية.
وعلى كل حال فكلما تتقدم الأفهام نحو إدراك المعنويات تقل تعلقها بالمظاهر المادية المغرية ، وكلما قل تعلقها بالمادة زادت في إدراكها ، ومعنى هذا أن كل إنسان بطبيعته الإنسانية فيه الاستعداد الذاتي لهذا الإدراك ، ولو لم يشبه بالشوائب العرضية لأمكن تربيته وتقدمه.
٢ ـ نستنتج مما سبق أنه لا يمكن حمل ما يدركه الإنسان الذي هو في المرتبة العليا من الفهم والعقل على الذي هو في المرتبة السفلى ، ولو حاولنا هذا الحمل لكانت نتجيته عكسية ، وخاصة في المعنويات التي هي أهم من المحسوسات المادية ، فإنها لو ألقيت كما هي على العامة لأعطت نتيجته تناقض النتيجة الصحيحة المتوخاة.
ولا بأس أن نمثل ها هنا بالمذهب الوثني. فلو تأمل الباحث في قسم « اوبانيشاد » من كتاب « ويدا » الكتاب البوذي المقدس ، لو تأمل الباحث فيه وقارن بين أقواله مقارنة صحيحة ليرى أنه يهدف إلى التوحيد الخالص. ولكنه مع الأسف يستعرض هدفه بلا ستار وعلى مستوى أفكار العامة ، فكانت النتيجة أن اتجه ضعفاء العقول من الهنود إلى عبادة أوثان شتى.
إذن لا يمكن رفع الستار بصورة مكشوفة عن الأسرار الغيبية وما يتعلق بما وراء الطبيعة والمادة للماديين ومن لم يذعن بالحقائق.
٣ ـ بالرغم مما نجده في الأديان من حرمان العامة من كثير من المزايا الدينية ، كحرمان المرأة في البرهمية واليهودية والمسيحية وحرمان غير رجال الدين من ثقافة الكتاب المقدس في الوثنية والمسيحية .. بالرغم من كل ذلك فإن أبواب الدين الإسلامي لم تغلق في وجه أحد ، فإن المزايا الدينية فيه للجميع وليست ملكاً لفئة خاصة ، فلا فرق بين العامة والخاصة والرجل والمرأة والأبيض والأسود ، كلهم مساوون في نظر الإسلام وليس لأحد ميزة على أحد.
قال تعالى : ( إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (2).
وقال عز من قائل : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3).
بعد تقديم هذه المقدمات الثلاث نقول : إن القرآن الكريم ينظر في تعاليمه القيمة إلى الإنسانية بما أنها إنسانية ، ونعني أنه يوسع تعاليمه على الإنسان باعتباره قابلاً للتربية والسير في مدارج الكمال.
ونظراً إلى أن الأفهام والعقول تختلف في إدراك المعنويات ولا يؤمن الخطر عند إلقاء المعارف العالية كما أسلفنا .. يستعرض القرآن الكريم تعاليمه بأبسط المستويات التي تناسب العامة ويتكلم في حدود فهمهم ومداركهم الساذجة.
إن هذه الطريقة الحكيمة نتيجتها أن تبث المعارف العالية بلغة ساذجة يفهمها عامة الناس ، وتؤدي ظواهر الألفاظ في هذه الطريقة عملية الإلقاء بشكل محسوس أو ما يقرب منه وتبقى الحقائق المعنوية وراء ستار الظواهر فتتجلى حسب الأفهام ويدرك منها كل شخص بقدر عقله ومداركه.
يقول تعالى : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) (4).
ويقول ممثلاً للحق والباطل ومقدار الأفهام : ( أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها ) (5).
ويقول الرسول صلىاللهعليهوآله في حديث مشهور : « إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم » (6).
ونتيجة أخرى لهذه الطريقة إن ظواهر الآيات تكون كأمثال بالنسبة إلى البواطن ، يعني بالنسبة إلى المعارف الإلهية التي هي أعلى مستوى من أفهام العامة ، فتكون تلك الظواهر كأمثال تقرب المعارف الممكورة إلى الأفهام ، يقول جل جلاله : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) (7).
ويقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) (8).
وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال ، إلا أن الآيات المذكورة وما في معناها مطلقة لا تختص بأمثال قرآنية خاصة.
فعليه لا بد من القول بأن الآيات كلها أمثال بالنسبة إلى المعارف العالية التي هي المقصد الأسمى للقرآن.
1- الحباب بفتح الحاء : الفقاقيع التي تعلو الماء.
2- سورة آل عمران : ١٩٥.
3- سورة الحجرات : ١٣.
4- سورة الزخرف : ٣ / ٤.
5- سورة الرعد : ١٧.
6- بحار الانوار ١ / ٣٧.
7- سورة الاسراء : ٨٩.
8- سورة العنكبوت : ٤٣.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان