قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

أساليب القرآن في دراسة مسألة المعاد (1)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
يستخدم القرآن الكريم أسلوباً وهو التذكير بوقائع تشبه كثيرًا عالم الآخرة.
والالتفات إلى هذه الحوادث - بالنسبة إلى الذين شاهدوها بأم أعينهم أو سمعوا بها فيما بعد – يهيئ الأرضية لقبول المعاد.
ومن جملتها قصة أصحاب الكهف، والكل يعلم تفصيل القضية، ونؤكد هنا على ملاحظة يهتم بها القرآن الكريم، فهؤلاء بعد أن اختفوا في الغار وقضوا فيه فترة طويلة تقدر بثلاثمئة وتسع سنين حسب السنين القمرية وثلاثمئة سنة بالسنين الشمسية كانوا خلالها نائمين، استيقظوا فأحسوا بالجوع وذهبوا إلى المدينة فوجدوها قد تغيرت عما كانت عليه، ووقع الناس في بلبلة حولهم فاقتربوا منهم وعرفوهم... وفي ذيل الآية يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ الكهف/21. فالنوم أخو الموت، والذي يستطيع الاحتفاظ بهؤلاء أحياء ثلاثمئة سنة من دون ماء وغذاء ومن دون تدخل العوامل الطبيعية فالإنسان بعد يومين أو ثلاثة من النوم يستيقظ من شدة الجوع وإلا فإنه سيتجرع الموت فإنه يستطيع إحياء الجميع أيضًا بعد الموت. والنموذج الآخر قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ البقرة/ 255 - 256. فهل هناك علاج آخر سوى الصاعقة للذين شاهدوا كل تلك المعجزات من موسى عليه السلام؟ فقد جاءت الصاعقة وأهلكتهم، ثم طلب موسى‏ عليه السلام من الله سبحانه أن يعيد الحياة إليهم فأحياهم مرة أخرى. إنها من أوضح الآيات على إحياء الموتى. ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ البقرة/259.


توضيحات حول هذه الآية:
بالنسبة ل"أو" في مطلع الآية يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه: إنه عطف على معنى الآيات السابقة، فقد ذكر من قبل إن عبادنا الصالحين نهديهم بأية صورة ونبين لهم طريق الحق، ومن جملتها قصة إحياء بني إسرائيل الواردة في الآية السابقة، وشواهد أخرى... ومنها أيضا هذه القصة: أو كالذي مر... أما من هو هذا الشخص؟ فإنه لم يذكر اسمه في القرآن الكريم إلا أن بعض الروايات المشهورة تقول إنه "عُزير" من أنبياء بني إسرائيل، وفي البعض الآخر إنه "إرميا". على قرية: يبدو أنه كان مسافراً فوصل إلى قرية مهدمة أو مر بمقبرة وشاهد عظام الموتى ويحتمل أنهم لم يدفنوا وكانت عظامهم بارزة فخطر في ذهنه أن هؤلاء كيف يتم إحياؤهم مرة أخرى؟ خاوية: وهي قريبة لمعنى "خالية"، فالخواء بمعنى الفراغ الداخلي. العرش: وهو السقف بالنظر إلى أسسه، مثل العرش يصنع من أشجار العنب كقوله: جنات معروشات وغير معروشات. فإذا انهارَ هيكل البناء فإنه يقال للقرية إنها: خاوية على عروشها. أنى يحيى هذه الله: إن هذه الجملة علامة على التعجب وليس على الشك والترديد، وذلك لأن الترديد يظهر في ذهن من ليس له اعتقاد بالمعاد ومن المعلوم إن المعاد من أصول عقائد كل مؤمن فضلاً عن عزير أو إرميا اللذين كانا من الأنبياء وقد كلمهم الله سبحانه. ولعله تذكر الموت فقال بلسان الحال: أنى يحيى هذه الله؟ ولكي يرفع عنه الله هذا التعجب فقد أراه الإحياء بعد الإماتة فأماته بنفسه ثم أحياه بعد مئة عام. فهل كان يعرف أن مئة عام قد مرت عليه؟ يبدو من الآية أنه لم يعرف ذلك ولهذا قال في جواب الله: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾. أي في عالم البرزخ لا يفهمون مرور الزمان، وبالقرائن فحسب يدركون أنه قد مر عليهم يوم أو بعض يوم. يقول العلامة الطباطبائي نحن نفهم من خلال جوابه أن الساعة من اليوم الذي مات فيه تختلف عن الساعة التي أحيي فيها. ومن الواضح إنه قد حدس من حركة الشمس أنه قد لبث في حدود يوم واحد.


ولعله تخيل أنه كان نائما خلال هذه الفترة، ولكي يتضح له الواقع أمره تعالى بالنظر إلى غذائه من ناحية ليتبين أنه لم يفسد، وإلى دابته من ناحية أخرى كيف تحولت عظامها إلى تراب. ولو لم يكن حماره بهذا الشكل فلعله لا يفهم أنه قد مات منذ مئة سنة. ثم بعد أن أحياه الله فقد أحيى حماره أمام عينيه حتى يقتنع بأن الله يستطيع حفظ الأشياء كالطعام والروح ثم يعيده إلى البدن في المعاد ويستطيع أن يميت شيئًا ثم يحييه مرة أخرى. وأما أنه لماذا ذكر الجملة المعترضة "لنجعلك آية للناس" في الأخير، فلعل الغرض منه هو كون عزير بنفسه آية للناس لأن الناس قد عرفوه ولكن الغرض من إحياء الحمار هو تفهيم الأمر لعزير نفسه، ولهذا فإنه قبل البحث في إحياء الحمار يقول لنجعل إحياءك آية للناس. والإتيان بواو العطف لإفهام هذا المعنى وهو إن في هذا الفعل حكما أخرى أيضا وكأنه قال: "لعلل ولنجعلك.." فهذا أيضا هدف من الأهداف. وقال تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ﴾ ولم يقل وانظر إلى الحمار. يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: إنه أدب القرآن الرفيع الذي لا يذكر به الإنسان إلى جانب الحمار وإنما يقول بصورة مبهمة أنظر إلى العظام كيف نركب بعضها على بعض ثم نكسوها لحما. وحينما شاهد هذا الأمر قال ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. ولم يقل علمت، والسر في ذلك أنه لم يكن شاكاً ثم علم حتى يقول علمت وإنما طرأت خلجات على ذهنه بالنسبة لشي‏ء كان ثابتاً عنده ثم يرى أن الواقع هو ما كان يعرفه من قبل فيقول "أعلم".
وعلى أي حال فإن الشخص المقصود في الآية لما كان نبيًّا فإن لديه علما بذلك من قبل، والشي‏ء الوحيد الذي حدث هو أنه قد تعجب ثم زال منه العجب فانتقل من علم اليقين إلى عين اليقين. ولو كان غير ذلك للزم أن يقول: "فلما تبين له قال: الآن علمت"، هذا هو ظاهر الآية الكريمة، وقد فسرها المفسرون بهذه الصورة، وأيدت ذلك الروايات أيضاً سوى بعض الخصوصيات فيها فذكرت أن هناك موجودين أحدهما إنسان والآخر حيوان ذهبا من هذه الدنيا ثم تم إحياؤهما بعد مئة عام، وقد شاهد هذا الأمر أحد الأولياء بأم عينيه.

لكن بعض المفسرين الذين ضعف إيمانهم بالمعجزة وخوارق العادة يقول: إن الموت في الآية ليس حقيقياً والمقصود به حالة تشبه الإغماء، وهذا الأمر قد يحدث أحياناً فيغمى على الشخص مدة طويلة، فالتعبير بالموت مجازي. ونسأل هذا المفسر: أكان هذا المغمى عليه خلال هذه الأعوام الطويلة يأكل الطعام ويتنفس ويصل الماء إلى جسمه أم لا؟ إن كانت هذه الأشياء تصل إليه فمن الذي يوصلها إليه؟. أكانت هناك ممرضة تقوم بشؤونه وتعتني به ولا بد أن نعترف حينئذ بوجود مستشفى ليتم ذلك بشكل طبيعي، أم إن هذا الحادث غير عادي؟. حسب الظاهر إنه لا بد من التسليم بأنه كان غير عادي، وعندئذ ما الفرق بين هذا وما قاله المفسرون؟ ولماذا نصرف اللفظ عن صراحته لنقول إنه كان مغمى عليه؟ ويقولون بالنسبة للحمار يقول القرآن: وانظر إلى حمارك. فلم يقل إنه مات ونحن أحييناه. وفي جواب هؤلاء نقول: لا داعي لكل هذه التأويلات في الآية لأنها تذكر بوضوح: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾. فماذا يعني هذا؟. فجواب القرآن يتناسب مع سؤال ذلك النبي، وقد كان سؤاله: أنى يحيى هذه الله بعد موتها؟ ويتناسب مع هذا السؤال أن يتم إحياء الحمار مرة أخرى. وعلى كل حال فإن هذا الأمر كان غير عادي وهو علامة على قدرة الله تعالى. والقصة الأخرى هي: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ البقرة/260.

ويفهم من الآية أن الإيمان يختلف عن اطمئنان القلب، فالاطمئنان يعني عدم وجود أي اضطراب في القلب، بينما من الممكن أن يوجد شخص مؤمن وهو مع ذلك يسأل: "أمن الممكن..؟". كما نلاحظ أحيانًا حوضًا من الماء مليئا، والماء الأسفل ثابت فيه لكن سطحه الظاهر تبدو فيه بعض الأمواج، بينما هناك أحواض أخرى تكون سطوحها كالمرآة خالية من أي موج واضطراب. وقد ورد في بعض الروايات إن اطمئنان القلب شي‏ء آخر، وقد روي ذلك عن الإمام الرضا عليه السلام (1) حيث إن علي بن الجهم ينقل أن المأمون سأل الرضا عليه السلام عن تفسير هذه الآية بأن الأنبياء معصومون وليس لديهم شك فلماذا يطلب إبراهيم مثل هذا الطلب، ألم يكن مؤمنًا؟ فأجاب الإمام عليه السلام : "إن الله أوحى إلى إبراهيم إنني أريد أن أوصل شخصًا من عبادي إلى منزلة "الخليل" وعلامة خلته أنه كلما دعى استجبت دعوته وحتى لو طلب مني إحياء ميت، فحدس إبراهيم أنه هو ذلك الشخص وأراد أن يطمئن إلى ذلك فطلب ذلك الأمر"(2). وتتعرض بعض الروايات لأسماء الطيور وقد ذكر الطاووس فيها جميعاً. وتقول بعض الروايات إن الطيور هي الطاووس والديك والحمام والغراب. وتقوم بعض الروايات الأخرى بتأويلات لكل واحد من هذه الطيور، ونحن نعترف بجهلنا ونقول بصراحة إننا لا نفهم منها شيئًا. ونقول إجمالًا إنها كانت طيورًا وقد تكون من نوع واحد، ولا يبدو من الآية شي‏ء أكثر من هذا. ولا يمكن أن يستفاد شي‏ء بوضوح من الروايات وهي تختلف بالنسبة إلى الجزئيات التي ذكروها. وهناك كلام كثير حول كلمة "صرهن". سواء أكان في معناها أم متعلقها وهو "إليك"، أم في التناسب بين المتعلِّق والمتعلَّق. وينطق هذا اللفظ بشكلين بكسر الصاد وضمها. فالأول من "صاريصير"، والثاني من "صاريصور". ومعناه عندما يستعمل متعديا هو جعل الشي‏ء مائلًا، والمعنى الآخر هو تقطيع الشي‏ء.


(1)  نغضّ النظر عن سند هذه الرواية فلعلّ النقل كان صادقاً، والراوي الضعيف قد يصدق في نقله.
(2)  تفسير نور الثقلين، ج‏1، ص ‏275.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد