قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

السَّكِينة في القرآن


السيد محمد حسين الطباطبائي ..

السَّكينة من السكون خلاف الحركة، وتُستعمل في سكون القلب، وهو استقرار الإنسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته، على ما هو حال الإنسان الحكيم صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من خواصّ الإيمان في مرتبة كماله، وعدّها من مواهبه السامية.
بيان ذلك أنّ الإنسان بغريزته الفطرية يُصدر أفعاله عن التعقّل، وهو تنظيم مقدّمات عقلية مشتملة على مصالح الأفعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثمّ استنتاج ما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن يتركه.
وهذا العمل الفكريّ إذا جرى الإنسان فيه على أسلوب فطرته ولم يقصد إلّا ما ينفعه نفعاً حقيقياً في سعادته، يجري على قرارٍ من النفس وسكونٍ من الفكر من غير اضطرابٍ وتزلزُل، وأمّا إذا أخلد الإنسان في حياته إلى الأرض واتّبع الهوى، اختلط عليه الأمر، وداخلَ الخيالُ بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه، فأورث ذلك انحرافه عن سُنَن الصواب تارة، وتردّده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الأمور وهَزاهِزها، أخرى.
والمؤمن بإيمانه بالله تعالى، مستنِدٌ إلى سِنادٍ لا يتحرّك وركنٍ لا ينهدم، بانياً أموره على معارف حقّة لا تقبل الشكّ والريب، مُقدِماً في أعماله عن تكليفٍ الهي لا يُرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شرّه.
وأمّا غير المؤمن، فلا وليّ له يتولّى أمره، بل خيرُه وشرّه يرجعان إلى نفسه، فهو واقعٌ في ظلمات هذه الأفكار التي تهجم عليه من كلّ جانبٍ من طريق الهوى والخيال والإحساسات المشؤومة، قال تعالى: ﴿..وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران:68.
- وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمد:11.
- وقال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ..﴾ البقرة:257.
- وقال تعالى: ﴿..إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف:27.
- وقال تعالى: ﴿..ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..﴾ آل عمران:175.
- وقال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً..﴾ البقرة:268.
- وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ النساء:119-120، إلى قوله تعالى: ﴿..وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ النساء:122.
- وقال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يونس:62.
والآيات كما ترى تضع كلّ خوفٍ وحزنٍ واضطرابٍ وغرورٍ في جانب الكفر، وما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.
وقد بُيّن الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..﴾ الأنعام:122، فدلّ على أنّ خَبْط الكافر في مَشيه لكونه واقعاً في الظلمات لا يُبصر شيئاً، لكنّ المؤمن له نورٌ إلهيّ يُبصر به طريقه، ويُدرك به خيره وشرّه، وذلك لأنّ الله أفاض عليه حياةً جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، وتلك الحياة هي المستتبِعة لهذا النور الذي يستنير به، وفي معناه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ..﴾ الحديد:28.
ثمّ قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ..﴾ المجادلة:22، فأفاد أنّ هذه الحياة إنّما هي برَوحٍ منه، وتلازِم لزومَ الإيمان واستقراره في القلب، فهؤلاء المؤمنون مؤيَّدون برَوحٍ من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، والحياة الجديدة في قوالبهم، والنور المضيء قدّامهم.

وهذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الفتح:4، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة، وازديادُ الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، ويؤيّد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿..وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾، فإنّ القرآن يُطلق الجندَ على مثل الملائكة والروح.
ويقرُب من هذه الآية سياقاً قوله تعالى: ﴿..فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا..﴾ الفتح:26، وكذا قوله تعالى: ﴿..فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا..﴾ التوبة:40.
وقد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى، أنّ السكينة رَوحٌ إلهي، أو تستلزم روحاً إلهياً من أمر الله تعالى، يُوجب سكينة القلب واستقرار النفس ورباطة الجَأْش، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر، واستعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الرّوح الإلهيّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد