السيد محمد حسين الطباطبائي
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
الرزق معروف، والذي يتحصّل من موارد استعماله أنّ فيه شوباً من معنى العطاء، كرزق الملك الجنديّ، ويقال لما قرّره الملك لجنديّه ممّا يؤتاه جملةً رَزَقَه، وكان يختصّ بما يتغذّى به لا غير، كما قال تعالى: ﴿..وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ..﴾ البقرة:233، فلم يُعِدَّ الكِسوة رزقاً .
ثمّ تُوسّع في معناه فعُدّ كلّ ما يصل الإنسانَ من الغذاء رزقاً كأنّه عطيّة بحسب الحظّ والجدّ وإن لم يُعلم معطيه، ثمّ عُمّم فسمّي كلّ ما يصل إلى الشيء ممّا ينتفع به رزقاً وإن لم يكن غذاءً، كسائر مزايا الحياة؛ من مال، وجاه، وعشيرة، وأعضاد، وجمال، وعلم، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ المؤمنون:72، وقال فيما يحكي عن شعيب: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا..﴾ هود:88، والمراد به النبوّة، والعلم، إلى غير ذلك من الآيات.
هو الرازق لا غير
والمتحصّل من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات:58، والمقام مقام الحصر: أوّلاً: أنّ الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلّا إليه، فما يُنسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدّقه أمثال قوله تعالى: ﴿..وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ الجمعة:11، حيث أثبت رازقين، وعدّه تعالى خيرهم، وقوله: ﴿..وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ..﴾ النساء:5، كلّ ذلك من قبيل النسبة بالغير، كما أنّ الملك والعزة لله تعالى لذاته، ولغيره بإعطائه وإذنه، فهو الرزاق لا غير .
وثانياً: أنّ ما يَنتفع به الخلق في وجودهم ممّا ينالونه من خير فهو رزْقهم والله رازقه، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى آيات الرزق على كثرتها آياتٌ كثيرة أُخر، كالآيات الدالّة على أنّ الخلق، والأمر، والحكم، والمِلك [بكسر الميم]، والمشيّة، والتدبير، والخير لله محضاً عزّ سلطانه .
وثالثاً: أنّ ما يَنتفع به الإنسان انتفاعاً محرّماً لكونه سبباً للمعصية لا يُنسب إليه تعالى، لأّنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع، قال تعالى: ﴿..قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف:28، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..﴾ النحل:90، وحاشاه سبحانه أن ينهى عن شيءٍ ثمّ يأمر به، أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه.
ولا منافاة بين عدم كون نفع محرّم رزقاً بحسب التشريع وكونه رزقاً بحسب التكوين، إذ لا تكليف في التكوين حتّى يستتبع ذلك قبحاً، وما بيّنه القرآن من عموم الرزق إنّما هو بحسب حال التكوين، وليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامّية حتى يضرب صفحاً عن التعرّض للمعارف الحقيقية، وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضرّ به إلّا الخاسرون، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ الإسراء:82 .
على أنّ الآيات تَنسب المُلك الذي لأمثال نمرود وفرعون، والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه، فليس إلّا أنّ ذلك كّله بإذن الله آتاهم ذلك امتحاناً، وإتماماً للحجّة، وخذلاناً واستدراجاً ونحو ذلك، وهذا كلّه نِسَبٌ تشريعية، وإذا صحّت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحّة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العُقلائيّين فيها أوضح .
ورزق ربّك خير
ثمّ إنّه تعالى ذكَر أنّ كلّ شيء هو مخلوق له منزّل من عنده، من خزائن رحمته، كما قال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الحجر:21، وذكر أيضاً أنّ ما عنده فهو خير، قال تعالى: ﴿..وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ..﴾ القصص:60، وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أنّ كلّ ما يناله شيء في العالم ويتلبّس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه، كما يفيده أيضاً قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ..﴾ ألم السجدة:7، مع قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ..﴾ المؤمن:62 .
وأمّا كون بعض ما ينال الأشياءَ من المواهب الإلهية شرّاً يُستضرّ به فإنّما شَرّيته وإضراره نسبيّ، متحقّق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصّة، مع كونه خيراً نافعاً بالنسبة إلى آخرين، وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون، يشير إليه قوله تعالى: ﴿..وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ..﴾ النساء:79.
وبالجملة، جميع ما يُفيضه الله على خلقه من الخير -وكلّه خير ينتفع به- يكون رزقاً بحسب انطباق المعنى، إذ ليس الرزق إلّا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، وربّما أشار إليه قوله تعالى: ﴿..وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ..﴾ طه:131 .
ومن هنا يظهر أنّ الرزق، والخير، والخلق، بحسب المصداق على ما يبيّنه القرآن أمورٌ متساوية، فكلّ رزق خير ومخلوق، وكلّ خلق رزق وخير، وإنّما الفرق أنّ الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به، فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عارياً عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى:﴿..الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ..﴾ طه:50 .
والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه، فالغذاء خير للقوّة الغاذية بفرضها محتاجة إليه، طالبة له، تنتخبه وتختاره إذا أصابته، والقوّة الغاذية خير للإنسان، ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجاً طالباً، وأمّا الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقّق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض، فالغذاء مثلاً مخلوق موجَد في نفسه، وكذا القوّة الغاذية مخلوقة، والإنسان مخلوق .
ولمّا كان كلّ رزق لله، وكلّ خير لله محضاً، فما يعطيه تعالى من عطيّة، وما أفاضه من خير، وما يرزقه من رزق، فهو واقع من غير عِوض، وبلا شيء مأخوذ في مقابله، إذ كلّ ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقّاً، ولا استحقاق هناك، إذ لا حقّ لأحد عليه تعالى إلّا ما جعل هو على نفسه من الحّق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا..﴾ هود:6، وقال تعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ الذاريات:23 .
العطيّة الإلهية بالخير
فالرزق مع كونه حقّاً على الله لكونه حقاً مجعولاً من قِبله عطيّةٌ منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه، بل من جهة ما جعله على نفسه من الحقّ. ومن هنا يظهر أنّ للإنسان المرتزق بالمحرّمات رزقاً مقدّراً من الحلال بنظر التشريع، فإنّ ساحته تعالى منزّهة من أن يجعل رزق إنسان حقّاً ثابتاً على نفسه، ثم يرزقه من وجه الحرام، ثم ينهاه عن التصرّف فيه، ويعاقبه عليه .
كذلك الرزق منه ما هو رزق عامّ، وهو العطية الإلهية العامّة المُمِدَّة لكلّ موجود في بقاء وجوده، ومنه ما هو رزق خاصّ، وهو الواقع في مجرى الحِلّ.
وكما أنّ الرحمة العامّة والرزق العامّ مكتوبان مقدّران، قال تعالى: ﴿..وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ الفرقان:2، كذلك الرحمة الخاصّة والرزق الخاصّ مكتوبان مقدّران، وكما أنّ الهدى وهو رحمة خاصّة مكتوب مقدّر تقديراً تشريعياً لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات:56-58، وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ..﴾ الإسراء: 23، فالعبادة، وهي تستلزم الهدى وتتوقّف عليه، مقضيّةٌ، مقدّرة تشريعاً. كذلك الرزق الخاصّ الذي هو عن مجرى الحِلّ مقضيّ مقدّر، قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ الأنعام:140، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ..﴾ النحل:71، والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعيّ يشمل الكافر والمؤمن، ومن يرتزق بالحلال، ومن يرتزق بالحرام .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان