قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

الحَبْط

 

فسادُ العمل، بدخول المُفسِد عليه
السيد محمد حسين الطّباطبائيّ 
الحَبْط هو بطلانُ العمل وسقوطُ تأثيرِه، ولم يُنسَب في القرآن إلَّا إلى العمل، كقوله تعالى:
﴿..لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الزّمر:65.
وقولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ محمّد:23-33.
وآخرُ الآية (33) يدلّ بالمقابلة على أنّ الحَبْط بمَعنى بُطلان العَمل، كما هو ظاهرُ قوله تعالى: ﴿..وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هود:16.
ويقرُب منه قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ الفرقان:23.
 

 أثرُ «الحَبْط» في الدّنيا والآخرة معاً
الحَبْط هو بطلانُ العمل وسقوطُه عن التّأثير، وقد قيلَ: إنّ أصلَه من «الحَبَط» بالتّحريك وهو أن يُكثِرَ الحيوان من الأكل، فينتفخَ بطنُه، وربّما أدّى إلى هلاكه.
 والّذي ذكرَه تعالى من أثر الحَبْط [هو] بطلانُ الأعمال في الدّنيا والآخرة معاً، فَلِلحَبْط تعلُّقٌ بالأعمال من حيث أثرِها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمانَ يُطيِّب الحياة الدّنيا كما يطيِّب الحياة الآخرة. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النّحل:97.
وخسرانُ سَعي الكافر، وخاصّةً مَن ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحَبْطُ عملِه في الدّنيا ظاهرٌ لا غبارَ عليه، فإنّ قلبَه غيرُ متعلِّقٍ بأمرٍ ثابت، وهو اللهُ سبحانَه؛ يبتهجُ به عند النّعمة، ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجعُ إليه عند الحاجة.
قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..﴾ الأنعام:122. تبيِّنُ الآية أنَّ للمؤمن في الدّنيا حياةً ونوراً في أفعاله، وليس للكافر.
ومثلُه قوله تعالى: ﴿..فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ طه:123-124، حيث يبيِّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضَنْكٌ ضيّقةٌ متعِبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياتُه سعيدةٌ رحبةٌ وسيعة.
وقد جمع الجميعَ ودلّ على سبب هذه السّعادة والشّقاوة قولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمّد:11.
فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال [هو] مطلقُ الأفعال الّتي يريدُ الإنسان بها سعادةَ الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة والأفعال القُربيّة الّتي كان المرتدّ عملَها وأتى بها حالَ الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحَبْطَ واردٌ في مورد الّذين لا عمَلَ عباديّاً ولا فعلَ قُربيّاً لهم، كالكفّار والمنافقين، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ محمّد:7-9.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ آل عمران:21-22، إلى غير ذلك من الآيات.


 الحَبْط، والشَّقَاوة
فمحصّل الآية كسائر آيات الحَبْط، هو أنَّ الكفر والارتداد يُوجِبان بطلان العمل عن أن يؤثِّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجبُ حياةً في الأعمال تؤثِّر بها أثرها في السّعادة، فإنْ آمنَ الإنسانُ بعد الكفر (أصبحت أعمالُه ذات حياة وسبباً للسّعادة) بعد كونها محبِطة باطلة، وإنِ ارتدَّ بعد الإيمان ماتَت أعمالُه جميعاً وحَبِطت، فلا تأثيرَ لها في سعادة دنيويّة ولا أخرويّة، لكن يُرجى له ذلك إنْ هو لم يَمُت على الرِّدّة. وإن مات على الرِّدّة حُتِّم له الحَبْطُ، وكُتِبَ عليه الشّقاء.
ومن هنا يظهر بطلانُ النّزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحَبْط عندَه أو عدمه.
توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضُهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السّابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإنْ لم يرجع إلى الايمان بطلتْ بالحَبْط عند ذلك، واستُدلّ عليه بقوله تعالى ﴿..وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ..﴾ البقرة:217، وربّما أيّده قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ الفرقان:23، فإنّ الآية تبيِّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّكَ أعمالَه الصّالحة السّابقة على الارتداد.
وذهبَ آخرون إلى أنّ الردّةَ تُحبِطُ الأعمالَ من أصلِها، فلا تعودُ إليه وإنْ آمنَ من بعدِ الارتداد. نعم، له ما عملَه من الأعمال بعدَ الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذتْ قيدَ الموتِ لِكَونها في مقامِ بيانِ جميع أعمالِه وأفعالِه التي عملَها في الدّنيا!
وأنت بالتّدبّر في ما ذكرناه تعرف أنْ لا وجهَ لهذا النّزاع أصلاً، وأنّ الآية بِصَددِ بيانِ بُطلان جميعِ أعمالِه وأفعالِه من حيث التّأثير في سعادتِه!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد