قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ

السيد محمد حسين الطباطبائي

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص قال: في نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعامًا فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، وقالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره فكان سعد مفزور الأنف قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية: «"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، إلى آخر الآية.

أقول: والروايات في القصص التي أعقبت تحريم الخمر في الإسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.

أما هؤلاء الذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أن هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن في الآيات إشعارًا أو دلالة على أن رهطًا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت آية المائدة.


نعم ورد في بعض الروايات أن عليًّا (عليه السلام) وعثمان بن مظعون كانا قد حرما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، وقد ذكر في الملل والنحل رجالًا من العرب حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، وقد وفق الله سبحانه بعض هؤلاء أن أدرك الإسلام ودخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي وقد أدرك الإسلام، ومنهم صفوان بن أمية بن محرث الكناني وعفيف بن معديكرب الكندي والأسلوم اليامي وقد حرم الزنا والخمر معًا، وهؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحق على لسانهم، وأما عامتهم في الجاهلية كعامة أهل الدنيا يومئذ إلا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتى حرمها الله سبحانه في كتابه.

والذي تفيده آيات الكتاب العزيز أنها حرمت في مكة قبل الهجرة كما يدل عليه قوله تعالى: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم و البغي»: «الأعراف: 33» والآية مكية، وإذا انضمت إلى قوله تعالى: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما»: «البقرة: 291»، وهي آية مدنية نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شك في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، وإذا تدبرنا في سياق آيات المائدة، وخاصة فيما يفيده قوله: «فهل أنتم منتهون» وقوله: «ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا،» الآية انكشف أن ما ابتلي به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام عصيانًا حتى نزل قوله تعالى: «أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم»: «البقرة: 178»

فقد تبين أن في هذه الروايات كلامًا من وجهين: أحدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مر في الرواية الأولى أنها قبيل غزوة أحد، وفي بعض الروايات: أن ذلك بعد غزوة الأحزاب.

لكن الأمر في ذلك سهل في الجملة لإمكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة وإن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كل الموافقة.

وثانيهما: من جهة دلالتها على أن الخمر لم تكن بمحرمة قبل نزول آية المائدة أو أنها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس وخاصة للصحابة مع صراحة آية الأعراف المحرمة للإثم وآية البقرة المصرحة بكونها إثمًا، وهي صراحة لا تقبل تأويلًا.

بل من المستبعد جدًّا أن تنزل حرمة الإثم بمكة قبل الهجرة في آية تتضمن جمل المحرمات أعني قوله: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون»: «الأعراف: 33»، ثم يمر عليه زمان غير يسير، ولا يستفسر المؤمنون معناه من نبيهم ولا يستوضحه المشركون وأكبر همهم النقض والاعتراض على كتاب الله مهما توهموا إليه سبيلًا.

بل المستفاد من التاريخ أن تحريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للخمر كتحريمه الشرك والزنا كان معروفًا عند المشركين يدل على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلاد بن قرة وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم:  أن أعشى بني قيس خرج إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدًا. وبت كما بات السليم مسهدًا. القصيدة.

فلما كان بمكة أو قريبًا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسلم فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من إرب، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فإن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلا يبقى لهذه الروايات إلا أن تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الآيات مع الذهول عن آية الأعراف، وللمفسرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة.

وبعد اللتيا والتي فالكتاب نص في تحريم الخمر في الإسلام قبل الهجرة، ولم تنزل آية المائدة إلا تشديدًا على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهي الإلهي وإقامة حكم الحرمة.

وفي تفسير العياشي،: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قيل له: روي عنكم: أن الخمر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون.

وفيه،: عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة فسأل عليًّا فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حد أنا من أهل هذه الآية: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات - جناح فيما طعموا» فقرأ الآية حتى استتمها فقال له علي (عليه السلام): كذبت لست من أهل هذه الآية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، وليس يأكلون ولا يشربون إلا ما يحل لهم. أقول: وروي هذا المعنى أيضًا عن أبي الربيع عنه (عليه السلام)، ورواه أيضًا الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن سنان عنه (عليه السلام)، وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضًا.

وقوله (عليه السلام): "ما طعم أهلها فهو حلال لهم، إلخ" منطبق على ما قررناه في البيان السابق من معنى الآية فراجع.

وفي تفسير الطبري، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربع آيات: «يسألونك عن الخمر والميسر» الآية فتركوها ثم نزلت: «تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا» فشربوها ثم نزلت الآيتان في المائدة: إنما الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون.

أقول: ظاهره نسخ آية النحل لآية البقرة ثم نسخ آيتي المائدة لآية النحل، وأنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد.

وفي الكافي، والتهذيب، بإسنادهما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيًّا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حرامًا وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا.

وفي الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله عز وجل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس - من عمل الشيطان فاجتنبوه» قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلما تقمرت به حتى الكعاب والجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها.

وفيه،: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر.

أقول: والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضًا عن عبد الله بن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولفظها: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواها البيهقي وغيره، وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأن كل مسكر حرام، وأن كلما يقامر عليه فهو ميسر.

وفي تفسير العياشي: عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: سألته عن النبيذ والخمر بمنزلة واحدة هما؟ قال: لا، إن النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إن الله حرم الخمر قليلها وكثيرها كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحرم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأشربة المسكر، وما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد حرم الله.

وفي الكافي، والتهذيب، بإسنادهما عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لإثمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر،  وفي رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.

أقول: والأخبار في ذم الخمر والميسر من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد