قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عن الكاتب :
فيلسوف، مفسر وعالم دين إسلامي و مرجع شيعي، مؤسس مؤسسة الإسراء للبحوث في في مدينة قم الإيرانية

التسبيح والخشية والخوف عند الجمادات

في ذيل قصة البقرة ولدى بيان الأقسام المختلفة للحجارة، جرى الحديث عن الحجارة التي يطرأ عليها الهبوط والنزول من خشية الله. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

إن هذه الجملة تذكر بالآية التي تسند تسبيح الباري تعالى وتنزيهه لجميع الموجودات حتى الجمادات: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وهناك آية أخرى تبين أنّ كل شيء مسلم ومنقاد الله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].

 

ونلاحظ أيضاً وجود آيات تنسب السجود والقدوم طوعاً ورغبة  لموجودات نظام الوجود كافة: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. كما أنها تؤيد تلك الطائفة من الروايات والآيات التي تنقل شكوى أو شفاعة بعض الجمادات أو الأعضاء والجوارح في القيامة؛ وذلك لأن لوازم الشكوى والشفاعة في محكمة العدل الإلهية هو الإحساس والإدراك والحضور في مسرح الحادثة، وأنّى للدار والمسجد اللذين لم يحضرا في مسرح الجريمة كشاهدين وليس لهما معرفة أو إدراك بها أن يشهدا في محكمة القيامة لصالح أحد أو ضده؛ فالقيامة هي ظرف أداء الشهادة، وكل أداء للشهادة لابد وأن يكون مسبوقاً بتحمل الشهادة.

وتحمل الشهادة يتطلب الحضور في مسرح الحادثة وإدراكها وفهمها؛ فإذا قالت أعضاء الإنسان وجوارحه أو أي جماد آخر يوم القيامة: لقد أنطقنا الله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21]. فلا يعني هذا أن الله تعالى قد أفهمنا هذا الأمر الآن، بل هو بمعنى أننا كنا على علم بذلك حتى الساعة، لكن لم يؤذن لنا بإظهاره أو إفشائه، أما الآن فقد أذن الله تعالى لنا بإفشائه. فالقيامة هي ظرف الإذن بالإظهار وليس ظرف التعليم أو الإدراك الابتدائي للأعضاء والجوارح.

 

على أية حال فإن استيعاب هذه النقطة والاعتقاد بها، له دور بالغ الأهمية في تربية الإنسان وردعه عن المعاصي؛ فمن المستبعد جدًّا أن يكون المرء معتقدًا بأن الكون بأسره هو مظهر الله تعالى وفي محضره، وأن الباري عز وجل هو الحاكم العادل والشاهد الحاضر وأن كل الأشياء هي جنوده: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]. ثم ـ في الوقت ذاته ـ يجيز لنفسه ارتكاب المعصية؛ لأنه من المفترض أن يكون قد وصل إلى الاعتقاد الباطني القائل بأنه مضافًا إلى الله سبحانه، الذي هو العالم بكل شيء، فإن جميع الأشياء مراقبة له وتشهد عليه، وأن القيامة ليست هي ظرف حدوث علم هذه الموجودات بأعماله، بل ظرف إذن الله بنطقها وتكلمها فيما يخص أداء الشهادة.

 

تنويه:

أ: ما قاله الشيخ الطوسي في التبيان والشيخ الطبرسي في مجمع البيان من أن إسناد مثل هذه الأعمال الإدراكية إلى الجمادات هو مجاز [1] ليس بالقول الصائب؛ لأن البرهان العقلي مطابق تمامًا لظاهر القرآن؛ كما أن مشهود أصحاب البصر والبصيرة مؤيد لهذا أيضًا.

ب: من الممكن أن يتعلق قيد من خشية الله بكل واحد من الأحكام الثلاثة الآنفة الذكر؛ أي أن انفجار النهر من الحجر، وخروج الماء من الحجر المتشقق، وهبوط الحجر الهابط جميعها مرهون بالخوف الممدوح من الله.

ج: المقصود من النهر هو المعنى نفسه المشهور للنهر، إلا أن إسناد الانفجار إليه يشابه إسناد الجريان إلى النهر في القرآن: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].

ـــــــــــــــــــ

[1] راجع مجمع البیان، ج 1 – 2، ص 282 – 283؛ وراجع التبیان، ج 1، ص 311.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد